
في عام 1987، قدّم وارن بافيت، أحد أعظم المستثمرين في العالم، تشخيصًا نفسيًا ساخرًا، ليس لإنسان بل للسوق نفسه. قال: “يا للأسف، هذا المسكين يعاني من اضطرابات عاطفية غير قابلة للعلاج. أحيانًا يشعر بالنشوة ويرى فقط ما هو إيجابي… وأحيانًا أخرى يغرق في الكآبة ولا يرى إلا المصائب.” لم يكن بافيت يتحدث عن رئيس متقلب مثل دونالد ترامب — رغم أن الوصف يكاد ينطبق عليه بل عن شخصية خيالية تُدعى “السيد سوق”.
هذه الشخصية، التي ابتكرها بنجامين غراهام، معلّم بافيت، تجسد تقلبات الأسواق ما بين الإفراط في التفاؤل والانزلاق في التشاؤم، بعيدًا عن فكرة أن الأسواق دائمًا عقلانية. وقد عادت هذه الفكرة لتطفو على السطح في لحظة سياسية واقتصادية غريبة، حين بدا أن تصرفات ترامب، لا سيما قراراته الجمركية، تحرك الأسواق كما لو كانت تستجيب لتقلّبات مزاجه.
وقد وصفت فايننشال تايمز هذه العلاقة المضطربة بين ترامب والأسواق بأنها “دوامة انتحارية” تجمع رئيسًا غريب الأطوار بسوق لا يرحم.
ترامب والسوق: غرق جماعي أم رقصة مدروسة؟
في الأسابيع الأخيرة، بدت العلاقة بين ترامب و”السيد سوق” أشبه بصراع غريزي بين رجلين يغرقان ممسكين برقبة بعضهما البعض. فمن جهة، يتنقل الرئيس الأمريكي بين فرض رسوم جمركية هائلة وتراجع جزئي ثم عودة للتصعيد، فيما تترنح الأسواق المالية مع كل قرار جديد، وكأنها في دوامة من الفوضى وسوء الفهم.
فهل نحن أمام سياسة عبثية تفتقر إلى الاتساق؟ أم أن هذه العشوائية تخفي عبقرية استراتيجية؟ الأهم من ذلك: هل رد فعل السوق يُظهر فطنة باردة أم هلعًا مقنعًا بثقة؟

هل تهتم الأسواق فعلًا بالأخبار؟
هذا التساؤل يقودنا إلى دراسة لافتة نُشرت عام 1971 للاقتصادي فيكتور نيدرهوفر، الذي لاحظ أن الأخبار التي تملأ الصفحات الأولى للصحف نادرًا ما تُحدث أثرًا واضحًا على حركة المؤشرات. خلال فترة ما بين 1950 و1966، لم تستجب الأسواق إلا بشكل محدود حتى لأحداث بحجم أزمة السويس واغتيال كينيدي.
وهذا يعزز الفكرة التالية: تحرك الأسواق العنيف بسبب سياسة رئيس كما حدث مع ترامب أمر استثنائي، بل وربما غير مسبوق.

سياسة تجارية لا تشبه شيئًا سوى نفسها
عندما أعلن ترامب فرض رسوم جمركية على واردات من الصين بحجم يُقارن برسوم سموت-هاولي الكارثية عام 1930، ظن كثيرون أنه بلغ ذروة التصعيد. لكن المفاجأة لم تكن فقط في حجم الرسوم، بل في تذبذبها: تأجيل لمدة 90 يومًا، ثم إعفاء مؤقت للإلكترونيات، ثم تراجع عن الإعفاء. الرسالة الوحيدة الواضحة كانت: لا وضوح في السياسة.
وهنا يظهر التساؤل الأخطر: هل هذا التخبط فرصة للبعض لاستغلال معلومات داخلية؟ أم أنه ببساطة انعكاس لعجز في اتخاذ القرار؟

ردة فعل السوق: هل كانت مطمئنة أم مقلقة؟
عندما انخفض مؤشر S&P 500 بنسبة 5% في يوم، ثم 6% في اليوم التالي، بدا الأمر كبيرًا. لكنه في السياق التاريخي ليس استثنائيًا: الانهيار في 1987، والأزمة المالية 2008، وجائحة كورونا 2020، كلها خلفت خسائر يومية أكبر.
لكن التشابه الحقيقي يكمن في ثلاثينات القرن الماضي، حين أدت سياسات تجارية رعناء إلى انهيار الأسواق بنسبة 89%، وإلى كساد اقتصادي مديد. فإذا كان هذا هو النموذج الأقرب لما يحدث اليوم، فربما تكون الأسواق الآن أكثر هدوءًا مما ينبغي.

عقلانية أم لا مبالاة؟
التفسير المتفائل هو أن المستثمرين لم يأخذوا تهديدات ترامب على محمل الجد. أما التفسير المتشائم، فهو أن الأسواق ببساطة ترفض الاعتراف بحجم الكارثة المحتملة. لكن سوق السندات كان له رأي مختلف: باع المستثمرون الدولار وسندات الخزانة الأمريكية وهو عكس ما يحدث عادة عند حدوث أزمات — في إشارة إلى أن الاضطراب هذه المرة قادم من الداخل، لا من الخارج.
ارتباك الشركات وحيرة المستثمرين
وسط هذه الفوضى، تُصاب الشركات بالشلل: هل تعيد هيكلة سلاسل التوريد؟ هل تغلق مصانعها؟ هل تستثمر في الداخل أم تفرّ إلى الخارج؟ الإجابة الوحيدة المتاحة حاليًا: انتظر ولا تفعل شيئًا.
وفي هذه المعادلة المعقدة، يبدو أن المستثمرين في الأسهم متفائلون لأنهم يعتقدون أن ترامب سيتراجع، بينما يتخوف المستثمرون في السندات لأنه يتراجع كثيرًا. لكن هؤلاء الأخيرين هم من تميل كفة الميزان المالية العالمية لصالحهم.
ماذا على المستثمر الفردي أن يفعل؟
ترامب بالكاد قضى ثلاثة أشهر في منصبه آنذاك، وما تبقى كان 45 شهرًا من عدم اليقين. الرهان على أي سيناريو محفوف بالمخاطر. لكن كما أظهرت دراسة شهيرة لباربر وأودين في التسعينات، فإن الإفراط في التداول والثقة المفرطة الناتجة عن كثرة المعلومات تؤدي إلى أداء أسوأ، لا أفضل.
الدرس الأهم للمستثمرين؟
ابتعد عن شاشات الأخبار، تجاهل تقلبات تويتر، وابقَ على استراتيجية بسيطة: استثمر في الأشياء المملة، نوّع استثماراتك، ولا تُعطِ اهتمامًا كبيرًا لتقلبات السيد ترامب أو تقلبات السيد سوق.
أثر طويل الأمد على الذاكرة الاستثمارية
كما أظهرت دراسة “أطفال الكساد” التي أجراها مالماندير وناجل، التجارب الاقتصادية التي نمر بها تطبع سلوكنا المالي لعقود. والأرجح أن لحظة ترامب الجمركية هذه، بكل ما رافقها من فوضى، ستبقى محفورة في وعي جيل كامل من المستثمرين.
لكن حتى مع كل هذا، يبقى للسيد سوق فضيلة واحدة لا يملكها كثيرون ممن يحيطون بترامب: الصدق مع النفس. فهو قد يكون مفرط الحماسة، أو غارقًا في التشاؤم، لكنه في النهاية لا يجامل أحدًا — حتى لو كان رئيسًا للولايات المتحدة.