ترامب وأوكرانيا: حين يتحالف الاستبداد مع الابتزاز في السياسة الدولية
البيت الأبيض في عهد ترامب: من دعم الديمقراطيات إلى شرعنة الغزو

إذا كان المرء يبحث عن انعكاس صادق لشخصية دونالد ترامب السياسية، فإنّ الأزمة الأوكرانية توفّر المرآة الأكثر صفاءً ووضوحًا. فطريقة تعامله مع هذه الحرب لا تكشف مجرد قصور في الرؤية أو هشاشة في القرار، بل تفضح خللًا عميقًا في مواقفه من القيم الديمقراطية والتحالفات الغربية. في غضون مئة يوم فقط من عودته المفترضة إلى البيت الأبيض، نجح ترامب في قلب دور الولايات المتحدة من نصير للدول المتضررة إلى متواطئ صامت, أو حتى صريح مع العدوان الروسي. هذا التحوّل لم يكن مجرد خطأ سياسي، بل خطوة ذات تبعات كارثية على النظام العالمي، خصوصًا على شعب أوكرانيا الذي لا يزال يدفع ثمن مقاومته للغزو الروسي. وفي ظل هذا التحوّل، لم تعد المبادئ الدولية سوى شعارات خاوية في مواجهة نزعة ترامب الواضحة لتقويض التحالفات وتقديم المصالح الشخصية على حساب القيم والمصالح المشتركة.
دعم ضمني للغزو الروسي: انحياز مقلق
رغم صيحة ترامب المسرحية إلى بوتين – “فلاديمير، توقف!” بعد الهجمات الروسية الأخيرة على كييف، فإن الواقع يقول إن إدارته انحازت بشكل شبه كامل إلى جانب المعتدي. فمنذ توليه المنصب، تخلت واشنطن تدريجيًا عن دعمها الواضح لأوكرانيا، وأبدت استعدادًا لقبول التوسع الروسي في الأراضي الأوكرانية. بل إن مستشاره الخاص ستيف ويتكوف، صديق ترامب في عالم العقارات ومبعوثه للشرق الأوسط، ظهر في موسكو يكرر مزاعم الكرملين كما لو كان ناطقًا رسميًا باسمها. هذا التحول السياسي لم يكن عشوائيًا، بل جزء من “صفقة سلام” يروج لها ترامب، تعني في الواقع تسليم أوكرانيا بالكامل إلى بوتين.
ازدراء للدساتير واحتقار للقانون
غضب ترامب العلني من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، لم يكن بسبب موقف متطرف بل لأنه رفض الاعتراف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم استنادًا إلى ما يفرضه عليه الدستور الأوكراني. هذا الموقف يكشف نفور ترامب من فكرة احترام القوانين، سواء أكانت محلية أو دولية. فمنذ عودته للرئاسة، أظهر ازدراءً متزايدًا للسلطة القضائية الأميركية، رافضًا تنفيذ أحكامها، ومستهدفًا القضاة بحملات شخصية. هذه ليست مجرد تجاوزات، بل هي محاولة منهجية لتقويض مبدأ سيادة القانون، وتكريس نموذج سلطوي شبيه بذلك الذي يمثله بوتين.
القانون الدولي تحت المقصلة: شرعنة الاحتلال
من أخطر ما تفعله إدارة ترامب اليوم هو تقويض القانون الدولي عبر تشريع أعمال العدوان. عندما يصف ترامب استعداد بوتين لوقف الغزو دون ابتلاع أوكرانيا كاملة بأنه “تنازل كبير”، فإنه يضفي شرعية على التوسع بالقوة، ويضرب مبدأ سيادة الدول في مقتل. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تشكل إجماع عالمي على رفض احتلال الدول بالقوة، لكن ترامب الآن يقوض هذا الإجماع. ما يفعله ليس فقط كارثة لأوكرانيا، بل هدم لأسس النظام العالمي برمته.
تشوه اقتصادي عالمي بسبب سياسة الانغلاق
سياسات ترامب لا تتوقف عند السياسة الخارجية، بل تمتد إلى الاقتصاد العالمي أيضًا. فتوجهه نحو الحروب التجارية، خاصة مع الصين، بدأ يؤثر بوضوح على سلاسل التوريد، وتسبب في هبوط حاد في حركة البضائع، وصل إلى 60% عبر المحيط الهادئ. التحذيرات تتصاعد من ركود اقتصادي عالمي، يقوده الاقتصاد الأميركي نفسه. ورغم وعوده المتكررة بإنهاء التضخم في “اليوم الأول”، فإن قراراته التجارية تسهم فعليًا في رفع الأسعار وتفاقم الأزمة، مما يعرض ملايين المستهلكين، خاصة في الولايات المتحدة، لأزمة خانقة.
ممارسات ابتزازية باسم السلطة
أحد أكثر وجوه رئاسة ترامب إثارة للقلق هو استخدامه العلني لسلطته في عمليات ابتزاز سياسي واقتصادي. من إجبار شركات قانونية على تقديم خدمات مجانية مقابل تجنب الإقصاء من قضايا حكومية، إلى ما يشبه مقايضة فجة مع الحكومة الأوكرانية: حماية أميركية مقابل حصة من عائدات الموانئ والمعادن. هذا السلوك لا ينتمي إلى سياسات الحلفاء، بل إلى ممارسات العصابات. وهو يعكس ذهنية ترامب الحقيقية، حيث تتحول السياسة الخارجية إلى صفقات تجارية رخيصة.
خطاب مملوء بالوعود الزائفة والفشل المتكرر
وعد ترامب خلال حملته الانتخابية بحل النزاع في أوكرانيا خلال “24 ساعة”، تمامًا كما وعد بحل التضخم في “اليوم الأول”. لكن الواقع يؤكد أن هذه الوعود لا تعدو كونها استمرارًا لنهجه الدعائي المبالغ فيه. في كل مرة، يتضح أن سياساته تفشل في تحقيق أهدافها، لأنه يفتقر إلى الصبر والقدرة على المفاوضة الجادة. كلما فشلت مبادرة، كما حدث في غزة، انسحب بسرعة نحو ملف آخر، دون أدنى شعور بالمسؤولية.
الخلاصة: ترامب كما هو دائمًا.. خطر داخلي وخارجي
في النهاية، تكشف الأزمة الأوكرانية طبيعة ترامب الحقيقية: شخص يسعى للسلطة المطلقة، يحابي الديكتاتوريين، يسيء فهم العلاقات الدولية، ويدير السياسة كأنها سوق عقارات. الأوكرانيون لا يرغبون في أن يكونوا مرآة لفشل ترامب أو دليلًا على استهتاره، بل يريدون حليفًا حقيقيًا يساندهم في معركتهم العادلة من أجل الاستقلال. لكن مصيبتهم أن من يفترض أن يكون هذا الحليف، أصبح عدوًا فعليًا في موقع القوة.