الوكالات

ألمانيا في مفترق طرق: بين اقتصاد متعثر وجيوسياسية مضطربة

في أعقاب انتخابات 2025، تدخل ألمانيا مرحلة حرجة تحت قيادة المستشار فريدريش ميرتز، وسط تحديات اقتصادية وجيوسياسية متشابكة. وبينما يواجه الاقتصاد الألماني، محرك أوروبا التقليدي، ركوداً مقلقاً، تتصاعد الضغوط الخارجية مع القوتين العظميين: الولايات المتحدة والصين. في هذا المقال المستند إلى تقرير نشره معهد Ifo في مارس 2025، نحلل أبرز ملامح الأزمة وسبل تعامل ميرتز معها لتحقيق توازن صعب بين المصالح الاقتصادية والاعتبارات الجيوسياسية.

اقتصاد متراجع: ضغوط داخلية تهدد العملاق الصناعي

شهد الاقتصاد الألماني انكماشاً بنسبة 0.2% في عام 2024، مدفوعاً بتراجع الصادرات وتدهور قطاعات صناعية رئيسية مثل السيارات والآلات. تفاقمت الأزمة مع ارتفاع أسعار الطاقة عقب قطع إمدادات الغاز الروسي نتيجة الحرب الأوكرانية، مما زاد الأعباء على الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة. وبحسب تقرير معهد Ifo، تراجع مؤشر ثقة الأعمال إلى أدنى مستوياته منذ عام 2009، وسط مخاوف من بيروقراطية مرهقة، نقص في العمالة الماهرة، وتنافسية صينية متزايدة تهدد مكانة ألمانيا الصناعية.

إصلاحات جذرية: ميرتز يدفع باتجاه التغيير رغم المقاومة

يرى ميرتز في هذه الأزمة فرصة لإعادة هيكلة الاقتصاد. وتتمثل خطته في إصلاحات ليبرالية تشمل تقليص البيروقراطية، تحفيز الابتكار عبر دعم الذكاء الاصطناعي والتقنيات الخضراء، وإصلاح سوق العمل من خلال تعزيز التدريب المهني وتسهيل هجرة الكفاءات. غير أن هذه الإصلاحات تواجه مقاومة شرسة من النقابات العمالية والمجتمعات المحلية، التي تخشى تداعيات اجتماعية سلبية جراء تسارع وتيرة التغيير.

معضلة الصين: شريك اقتصادي حيوي أم تهديد جيوسياسي؟

الصين، التي تمثل نحو 10% من الصادرات الألمانية، تعد شريكاً لا غنى عنه لبرلين، ليس فقط كسوق للمنتجات الألمانية، بل كمصدر رئيسي للمواد الخام والمكونات التكنولوجية. سياسة تقليل الاعتماد على الصين، التي أطلقتها ألمانيا عام 2023 استجابة لمخاوف أمنية، تضع برلين أمام معادلة معقدة. تشدد ميرتز تجاه بكين يتماشى مع خط الاتحاد الأوروبي لتقليل المخاطر، لكنه قد يفتح الباب أمام ردود صينية انتقامية تشمل قيوداً تجارية وعرقلة سلاسل التوريد الحيوية.

رهانات جديدة: تنويع الشركاء التجاريين في عالم مضطرب

رداً على التحديات الصينية، يسعى ميرتز لتنويع الأسواق بالتركيز على دول جنوب آسيا مثل الهند وإندونيسيا، إلى جانب التوسع في أفريقيا عبر شراكات مع نيجيريا وكينيا. هذا التوجه يتطلب استثمارات ضخمة وبنية تحتية معززة، ما يجعله رهانا طويل الأمد محفوفا بالصعوبات في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، حيث تحتاج هذه الأسواق لسنوات كي تشكل بدائل فعالة للصين.

العلاقات مع اميركا: بين ضغوط “أميركا أولاً” وتحديات داخلية

التوتر مع واشنطن يمثل تحدياً آخر. إدارة ترمب، عبر تبنيها سياسة “أميركا أولاً”، فرضت تعريفات جمركية على واردات أوروبية رئيسية، أبرزها السيارات الألمانية التي تشكل 13.1% من صادرات القطاع. تصريحات نائب الرئيس جي دي فانس، المنتقدة للديموقراطيات الأوروبية والداعمة لليمين المتطرف الألماني، زادت الطين بلة. لقاء فانس مع أليس فايدل، زعيمة حزب البديل لأجل ألمانيا (AfD)، شكّل إحراجاً بالغاً لميرتز الذي يحاول الموازنة بين الحفاظ على شراكة استراتيجية مع واشنطن، وحماية الاستقرار الداخلي والنظام الديموقراطي الألماني.

استراتيجية ميرتز: توازن صعب بين الإصلاحات والوحدة الأوروبية

يدرك ميرتز أن نجاحه يتوقف على تحقيق توازن دقيق. خطته ترتكز على:

  • تنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة تشمل خفض الضرائب وتحسين البنية التحتية الرقمية.

  • تنويع الشراكات التجارية لتقليل الاعتماد على الصين والولايات المتحدة.

  • تعزيز وحدة الاتحاد الأوروبي عبر الدفع نحو سياسات تجارية ودفاعية موحدة.

غير أن الطريق ليس سهلاً. فالإصلاحات قد تستغرق سنوات لإعطاء نتائج ملموسة، بينما تتطلب الأزمات الجيوسياسية استجابات فورية. كما أن الانقسامات الأوروبية الداخلية تعيق جهود بناء جبهة موحدة قادرة على مواجهة التحديات العالمية.

 ألمانيا أمام لحظة مفصلية

تقف ألمانيا اليوم أمام لحظة مفصلية. إن نجاح ميرتز في تنفيذ إصلاحات اقتصادية جريئة وإدارة التحولات الجيوسياسية بحكمة، قد يحوّل ألمانيا إلى نموذج عالمي في كيفية التكيف مع أزمات القرن الحادي والعشرين. أما الفشل، فقد يفتح الباب أمام تدهور اقتصادي وسياسي لا تهتز له برلين وحدها بل أوروبا بأسرها.

محمود فرحان

محمود أمين فرحان، صحفي خارجي متخصص في الشؤون الدولية، لا سيما الملف الروسي الأوكراني. يتمتع بخبرة واسعة في التغطية والتحليل، وعمل في مواقع وصحف محلية ودولية. شغل منصب المدير التنفيذي لعدة منصات إخبارية، منها "أخباري24"، "بترونيوز"، و"الفارمانيوز"، حيث قاد فرق العمل وطور المحتوى بما يواكب التغيرات السريعة في المشهد الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى