الطريق إلى الاستقلال الجيوسياسي: لماذا تحتاج أوروبا إلى التخلي عن غطرستها القديمة؟
من الوصاية إلى الشراكة: كيف تفشل أوروبا في كسب ثقة الجنوب العالمي؟

في خضم التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي يشهدها العالم، وتحت وطأة النزعة الانعزالية والسياسات العدوانية التي يتبناها دونالد ترامب، تتجه الأنظار إلى أوروبا بوصفها المرشحة الأبرز لملء الفراغ المتزايد الذي تتركه واشنطن على الساحة الدولية. ومع تفاقم الأزمات التي تعصف بالنظام الليبرالي العالمي، من الحرب التجارية إلى انحسار التعاون عبر الأطلسي، يطرح مراقبون تساؤلات جوهرية حول قدرة الاتحاد الأوروبي على التحول إلى قوة عالمية مستقلة، قادرة على قيادة توازن دولي أكثر عدالة وتعددية.
لكن هذا الطموح، رغم وجاهته، يصطدم بعقبة تاريخية بنيوية تتمثل في الذهنية الأوروبية ذاتها، التي ما تزال أسيرة رؤية مركزية تستمد جذورها من إرث استعماري لم يُراجع بعمق. فبدلًا من أن تنخرط أوروبا في شراكات متكافئة مع الجنوب العالمي، تميل سياساتها إلى الوصاية والتفوق الأخلاقي، مما يضعف من فرصها في اكتساب ثقة شركاء جدد. فالعالم لم يعد يتقبل التفاوتات القديمة ولا الخطابات المنمقة التي تخفي نزعات الهيمنة. وإذا أراد الاتحاد الأوروبي أن يصبح بديلًا فعليًا للولايات المتحدة، فعليه أولًا أن يتخلى عن ماضيه الاستعماري ويعيد بناء علاقاته الدولية على أسس المساواة والاحترام المتبادل.
الاستقلال عن واشنطن: طموح يتطلب مراجعة الذات
رغم امتلاك الاتحاد الأوروبي شبكة واسعة من اتفاقيات التجارة والمساعدات مع أكثر من 70 دولة، إلا أن قدرته على التحول إلى لاعب عالمي مستقل ما زالت مرهونة بتفكيك منظومة من الرؤى المتمركزة حول الذات الأوروبية. الرئيسة الحالية للمفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، تسعى لبناء “اتحاد أوروبي جديد” قادر على المساهمة في صياغة نظام عالمي متعدد الأقطاب، وقد اعترفت بأن “الغرب كما عرفناه لم يعد موجودًا”، ما يستدعي تكيُّفًا استراتيجيًا جديدًا مع عالم بات أكثر تعقيدًا. غير أن هذا الطموح يصطدم بواقع أوروبي تغذيه سياسات مزدوجة ونزعة وصائية تُثير استياء شركاء من الجنوب العالمي.

التناقضات الأخلاقية تُقوّض مصداقية الاتحاد
ينظر العديد من دول الجنوب العالمي إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره فاعلًا دوليًا ذا ثقل، لكن هذه النظرة تتآكل بفعل المعايير المزدوجة التي تنتهجها بروكسل. ففي الوقت الذي يرفع فيه الاتحاد شعار حقوق الإنسان في أوكرانيا، يلتزم الصمت حيال الجرائم الإسرائيلية في غزة، ما يثير اتهامات بالنفاق السياسي. كما أشار وزير الخارجية الهندي، سوبراهمانيام جايشانكار، عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، إلى أن أوروبا “تظن أن مشكلاتها هي مشاكل العالم، بينما لا تعتبر مشاكل العالم مشاكلها”. هذه العقلية تُغذّي شعورًا متزايدًا بالخذلان في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
الهيمنة الاقتصادية تحت غطاء “التحول الأخضر”
في خضم سعيه لحماية انتقاله الرقمي والأخضر، أبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقيات مع دول أفريقية غنية بالموارد مثل رواندا وناميبيا والكونغو الديمقراطية. إلا أن هذه الصفقات كثيرًا ما تُوصَف بأنها أشكال جديدة من نهب الموارد، تعيد إنتاج الهيمنة الاقتصادية بأساليب أكثر لباقة. الدول الشريكة، مثل إندونيسيا، بدأت تُبدي مقاومة متزايدة لما تعتبره إملاءات أوروبية غير متوازنة، خصوصًا فيما يتعلق بالمعايير البيئية والتجارية. وإذا أراد الاتحاد إنجاح مفاوضاته التجارية مع دول مثل ماليزيا وتايلاند والهند، فعليه أن يتخلى عن ذهنية “معاييري أفضل من معاييركم”.
مساعدات متناقضة وسياسات هجرة قمعية
مع انهيار الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في عهد ترامب، أصبح الاتحاد الأوروبي لاعبًا رئيسيًا في تمويل الدول الهشة. لكنّ تقليص ميزانيات التنمية من قبل دول مثل فرنسا وألمانيا، يتناقض مع هذا الدور المفترض. وفي ملف الهجرة، يواصل الاتحاد تمويل أنظمة قمعية في جواره المتوسطي لوقف تدفقات اللاجئين، مما يزيد من توتر العلاقات العرقية والاجتماعية في دول مثل تونس. الباحثة ياسمين أكرمي تؤكد أن الخطاب الرسمي التونسي تبنّى مؤخرًا مقولات عنصرية خطيرة ضد المهاجرين الأفارقة، على نحو غير مسبوق في المنطقة.
انحدار أخلاقي داخلي يضعف القوة الناعمة
الفرصة متاحة أمام الاتحاد لتعزيز حضوره الدولي عبر الدفاع عن قضايا التنوع والعدالة والمساواة، خاصة في ظل تقويض ترامب لهذه القيم داخل الولايات المتحدة. لكن مؤشرات الضعف الداخلي الأوروبي كثيرة: من غياب قوانين مكافحة التمييز، إلى تراجع الحريات العامة، وخصوصًا قمع التظاهرات المؤيدة لفلسطين في دول كألمانيا. رغم جهود المفوضة الأوروبية للعدالة والمساواة، حدجة لحبيب، فإن الملف الحقوقي ما يزال يفتقر إلى إجراءات حقيقية، وهو ما يُقوِّض ما تبقى من السلطة الأخلاقية للاتحاد.
بين الشعارات والرؤية الفعلية: فرصة تاريخية مهددة
الخطابات الرنانة لأورسولا فون دير لاين عن أوروبا كوجهة آمنة للابتكار والتجارة لن تكفي. فالاتحاد الأوروبي يقف اليوم أمام لحظة مفصلية؛ فإما أن يعيد تقييم أدواته ويصوغ علاقاته مع الجنوب العالمي على أسس عادلة ومتساوية، أو يستمر في إنتاج علاقات استعمارية مقنّعة. المشهد العالمي المضطرب، الذي عمّقه نهج ترامب، يمنح أوروبا فرصة نادرة لإعادة التوازن إلى النظام الدولي، لكنها لن تُستثمر ما لم تُصحَّح أولًا مسارات الداخل الأوروبي.
الطريق إلى العالمية يبدأ بالتواضع
إذا كان الاتحاد الأوروبي يسعى بجدية ليحل محل الولايات المتحدة كلاعب عالمي مستقل، فعليه أن يبدأ بإعادة النظر في ذهنيته قبل سياساته. عليه أن يصغي بدلًا من أن يُملي، وأن يتواضع بدلًا من أن يتعالى. وحدها شراكة حقيقية قائمة على المساواة مع دول الجنوب قادرة على خلق نظام عالمي أكثر استقرارًا وعدلًا، يُجنّب البشرية كارثة الانزلاق إلى عالم يسوده نموذج ترامب المظلم.