داوود وهيلديارد: بين الأدب الرقمي والكائنات الهجينة
مشروع بصري يحوّل الأرض إلى لوحة تموج بالكائنات البحرية

لا يمكن اختزال اهتمامات الفنان البريطاني جيريمي ديلر بمجرد القول إنه مشغول بالتاريخ. ديلر، الحائز على جائزة “تيرنر”، يلاحق ما غاب، وما اندثر، بل وما كان يمكن أن يوجد. من مناجم الفحم إلى أطياف الجنود الراحلين، مرورًا بمواقع عبادة وثنية منفوخة بالهواء، يجمع ديلر في أعماله بين الحنين والتحايل. في أحدث مشاريعه، يعود بنا إلى العصر الروماني – لكن هذه المرة ليس عبر اكتشاف أثري فعلي، بل من خلال فسيفساء “افتراضية” تروي قصة لم تحدث قط.
عمل فني ساحر على شاطئ سكاربره
هذا العمل الجديد، الذي أنجزه بالتعاون مع النحاتة كورالي توربين، يشكّل إضافة ساحرة لمسار Wild Eye الفني على الساحل الشمالي لمقاطعة يوركشاير، في مدينة سكاربره، التي تحمل جذورًا رومانية حقيقية. لكن بدلاً من إعادة بناء شيء من الماضي، اختار ديلر أن يصنع وهمًا أثريًا: فسيفساء رومانية زائفة، متعمّدة التشويش في التفاصيل، وكأن من صنعها حاول تذكّرها لا توثيقها.
من بقايا الإمبراطورية إلى كائنات البحر: متعة بصرية مزدوجة
تقع الفسيفساء عند نقطة مراقبة بحرية تطل على المحيط، حيث تُوزّع مناظير مجانية لمتابعة الحيتان والدلافين، وهو ما استلهم منه ديلر عمله الأرضي الذي لا يحجب الرؤية. قطعة “الفسيفساء الرومانية – 2025” ليست فقط تمرينًا بصريًا على التخيل، بل مشهد حيّ يموج بالحركة والحياة: حوت ضخم يعبر تحت سفينة، فقمة تهاجم سمكة، أخطبوط يشتبك مع سلطعون، وراية تحمل وجهًا مبتسمًا، في مزحة بصرية تحمل توقيع ديلر المعروف.
بين هذه المخلوقات، نجد إشارات مباشرة إلى تاريخ سكاربره المعاصر، مثل ذكرى زيارة الفظ في 2022، وطائر الأوك القطبي الذي شوهد في إحدى الرحلات البحرية. أما الإله الروماني في زاوية اللوحة، فينحني لينفخ ريحًا تعبث بالمشهد كله، في صورة تجمع بين المرح والعبثية.
توربين، بمساعدة تقنية فنية عالية، رتّبت البلاطات الصغيرة بحيث يبدو العمل وكأنه في حركة مستمرة، توحي بأن الكائنات قد تعود للبحر في أي لحظة.
الفن لا يُنافس الطبيعة… بل يعانقها
التحدي الأكبر لأعمال فنية على الساحل هو مقاومة جاذبية البحر ذاته. فصوت الأمواج، واتساع الأفق، يسرقان العين عن أي تفصيل أرضي. غير أن مشروع Wild Eye، الذي أطلقته مؤسسة Invisible Dust بالشراكة مع جمعية الحياة البرية في يوركشاير، لا يحاول منافسة الطبيعة، بل يحتضنها. هذا المسار الفني الذي يربط الإنسان بالطبيعة يعكس علاقة تفاعلية بين الفن والعلم والبيئة، في محاولة واعية لتعزيز الوعي بالمناخ من خلال الفن.
بالإضافة إلى ديلر، شارك فنانون آخرون بأعمال تركّز على هذا الارتباط. بول موريسون، على سبيل المثال، قدّم منحوتة من الفولاذ المقاوم للظروف البحرية، تجسّد قطعة من الأعشاب البحرية بطريقة تعيد الاعتبار لهذه الكائنات البحرية المهملة رغم دورها البيئي الكبير كمصارف للكربون.
الفن الرقمي وسؤال التفاعل الإنساني
بينما اختار بعض الفنانين التجسيد المادي، اتجه شيزاد داوود والكاتبة ديزي هيلديارد نحو التجربة الرقمية، من خلال عرض واقع معزز على طول ساحل سكاربره. بمجرّد مسح رمز QR، تظهر على شاشة الهاتف كائنات هجينة عبر السرد الأدبي لهيلديارد.
التجربة فكرية مثيرة، لكنها تعاني من فجوة شعورية: فالنظر إلى البحر من خلال هاتف ذكي يفقد اللحظة الكثير من سحرها، ويطرح تساؤلًا حول مدى تفاعل الجمهور العابر معها.
منحوتات ضد الزمن… ومع الطبيعة
في قلعة سكاربره، قدّم رايان غاندر عملًا منحوتًا من خرسانة منخفضة الكربون ممزوجة بأصداف وهياكل بحرية متحجرة. تحاكي القطعة شكل الـ dolos، وهي كتل ضخمة تُستخدم لحماية السواحل من التآكل. موقعها فوق منحدر، وسط الزهور والأعشاب البرية، يمنحها طابعًا سرياليًا، وكأنها سقطت من مستقبل بعيد هربًا من المدّ البحري.
أما إيما سميث، فقد اختارت النهج البطيء والتأملي، من خلال تصميم مقاعد حجرية من حجر فوسيل سوايلديل، موزعة على امتداد مسار Cinder Track الساحلي. هذه المقاعد، التي تدعو للتوقف والتأمل، تشجّع الزائر على الاندماج مع الطبيعة، والإصغاء لهمساتها… قبل أن تختفي هي الأخرى، كما قد تختفي فسيفساء ديلر، إن استمرت أزمة المناخ في التصاعد.