الوكالات

تحقيق نيويورك تايمز: رئاسة ترامب الثانية تختبر حدود الدستور الأميركي

رئاسة ترامب الثانية

مع بداية ولايته الثانية، بدأ دونالد ترامب في تنفيذ أجندة سلطوية تتجاوز بكثير ما كان يُعتقد ممكنًا ضمن الأطر الدستورية الأميركية. فخطواته لم تعد مقتصرة على تأكيد هيمنة السلطة التنفيذية كما فعل أسلافه من المحافظين الجدد، بل اتجه نحو إعادة صياغة العلاقة بين الحاكم والدولة، مستلهمًا رؤى فكرية أكثر جذرية وخطورة. هذه الرؤى لا تنبع من تقاليد الفكر الدستوري الأميركي المعتدل، بل من منابع أوروبية يمينية متطرفة طالما حذّر منها الأكاديميون.

المفكر الألماني كارل شميت، الذي نظّر لحالة الاستثناء وتجاوز القانون باسم السيادة، يشكل أحد أبرز هذه المرجعيات. كذلك ليو شتراوس، الذي رأى أن المجتمعات لا تحكمها دائمًا مبادئ عقلانية أو ديمقراطية بل نُخب قادرة على “توجيه الحشود”. ومن خلال كتابات أدريان فيرميول، أستاذ القانون في جامعة هارفارد، بدأ هذا الخط المتشدد يشق طريقه إلى الفكر الأميركي المحافظ الحديث.

تسلط The New York Times الضوء في هذا التقرير على هؤلاء المفكرين الذين، بوعي أو دون قصد، مهّدوا الطريق لترامب كي يعيد تعريف معنى السلطة في قلب الديمقراطية الأميركية

من شميت إلى شتراوس: الإلهام النظري للسلطة المطلقة

يرى الكاتب أن الأساس الفلسفي لتحركات ترامب ينبع من أفكار كارل شميت، الذي وصف الديمقراطية الليبرالية بأنها عاجزة عن اتخاذ قرارات حاسمة وقت الأزمات، وأن السلطة السيادية يجب أن تُمنح للقائد التنفيذي الذي يتجاوز القوانين والإجراءات المعتادة. وفي هذا السياق، ساند شميت صعود هتلر عام 1933 كـ”المقرّر السيادي” لألمانيا.

أما ليو شتراوس، المفكر اليهودي الألماني الذي هاجر إلى الولايات المتحدة، فقد تبنى هذه النزعة وإن بشكل أكثر تحفّظًا. ففي كتابه “الحق الطبيعي والتاريخ”، يفرق شتراوس بين المواقف العادية التي تنطبق عليها قواعد العدالة، و”الظروف القصوى” التي تسمح للقائد باتخاذ إجراءات تتجاوز الأعراف القانونية لحماية الأمة.

مؤسسة كليرمونت: التنظير للسلطة التنفيذية في العصر الأميركي

تعتبر مؤسسة كليرمونت الفكرية، التي تأسست عام 1979 في كاليفورنيا، من أبرز المؤسسات التي أعادت تدوير أفكار شتراوس وشميت ضمن سياق أميركي. ووفقًا لرؤاها، فإن النظام الإداري الحديث – الناشئ عن الإصلاحات التقدمية والصفقة الجديدة – قيد القيادة الحقيقية. لذا، ترى المؤسسة أن إعادة السلطة إلى الرئاسة هي الخطوة الأولى لاستعادة الجمهورية الأميركية الأصيلة، كما كانت في زمن الآباء المؤسسين ولينكولن.

من خلال هذا الفهم، بررت المؤسسة العديد من توجهات ترامب، بما في ذلك سعيه لتقويض المؤسسات المستقلة، وتجاوز القوانين الإدارية، وتكريس صورة الرئيس كصانع قرار أوحد.

أدريان فيرميول وإحياء لاهوت السلطة

ينقل الكاتب عن أدريان فيرميول، أستاذ القانون في جامعة هارفارد، مزجه بين أفكار شميت والنظريات الكاثوليكية في الحكم، إذ يعتبر أن السلطة التنفيذية “تجسيد حي” للشرعية القانونية، ولا ينبغي أن تخضع لأية رقابة داخلية. في مقاله المنشور العام الماضي، ذهب فيرميول إلى أن جميع موظفي السلطة التنفيذية ليسوا سوى امتداد لإرادة الرئيس، ولا يملكون صلاحية الاعتراض أو الاستقلال.

هذه الرؤية تبرر سلوكيات ترامب التي تتخطى الأعراف والمؤسسات، بما في ذلك طرد المفتشين العامين دون تبرير قانوني، وتجميد تنفيذ قوانين أقرها الكونغرس، مثل الحظر المفروض على تطبيق “تيك توك”.

حالة الطوارئ كأداة دائمة للحكم

من بين أخطر نتائج هذا التفكير، وفقًا للكاتب، هي فكرة اعتبار “الطوارئ” حالة دائمة تبرر التفرد بالسلطة. ففي ولايته الثانية، أعلن ترامب ثماني حالات طوارئ خلال أشهر قليلة، استخدم إحداها لنشر الجيش على الحدود، وأخرى لطرد مهاجرين وصفهم بأنهم “غزاة”. وفي تطور لافت، لجأ ترامب إلى “قانون الأعداء الأجانب” لتبرير عمليات ترحيل جماعي دون إجراءات قانونية، وهو ما أوقفته المحكمة العليا مؤخرًا.

هذا النهج لم يتوقف عند الطرد والترحيل، بل تعداه إلى حل وكالات حكومية أنشأها الكونغرس، وتجاهل قرارات قضائية اتحادية. إنه نمط من “الحكم الإمبراطوري” الذي يهدد التوازن الدستوري الأميركي.

خطر السلطة المنفلتة: هل تتكرر الكارثة؟

يحذر الكاتب من أن التوسع المطلق في سلطات الرئيس، إذا لم يُقابل بقيود مؤسسية وشخصية، فقد يؤدي إلى تحويل المنصب إلى أداة ديكتاتورية. ويشير إلى أن ترامب، بتاريخه ونزعته إلى تحطيم الأعراف، يمثل تهديدًا مضاعفًا عند منحه هذا القدر من السلطة.

ولعل المفارقة، كما يرى الكاتب، أن الليبراليين اليوم باتوا مضطرين لتذكير المحافظين أنفسهم بأهمية الأخلاق والنزاهة الشخصية في القيادة. فكلما زادت صلاحيات الرئيس، زادت الحاجة إلى ضمان استقامته، وهو معيار لا يبدو أن ترامب يحرص على تحقيقه.

 الدستور كملاذ أخير

يؤكد لينكر أن النظام الدستوري الأميركي، القائم على فصل السلطات، لم يصمم لمنع السلطة التنفيذية من العمل، بل لضبطها وتوجيهها. ولا مانع من تعزيز قدرة الرئاسة على الفعل الحاسم، شرط أن يُظهر شاغل المنصب إدراكًا للمسؤولية وحدود الصلاحية.

أما منح الرئيس سلطات مطلقة دون مساءلة، فهو وصفة مؤكدة لانهيار النموذج الجمهوري، وتحويل ديمقراطية عمرها قرنان إلى ديكتاتورية مموهة بحالة طوارئ دائمة.

محمود فرحان

محمود أمين فرحان، صحفي متخصص في الشؤون الدولية، لا سيما الملف الروسي الأوكراني. عمل في مؤسسات إعلامية محلية ودولية، وتولى إدارة محتوى في مواقع إخبارية مثل "أخباري24" والموقع الألماني "News Online"، وغيرهم, حيث قاد فرق التحرير وواكب التغيرات المتسارعة في المشهد الإعلامي العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى