الوكالات

حكم الفرد في قبضة الشرعية الشكلية: كيف يعيد ترمب هندسة السلطة؟

منذ الأيام الأولى لفترة ولايته الثانية، تجاوز دونالد ترمب كافة الخطوط الحمراء التي رسمها الآباء المؤسسون للديمقراطية الأميركية، بحسب تقييم هيئة تحرير The New York Times. فخلال مئة يوم فقط، نفّذ ترمب ما وصفته الصحيفة بأنه أخطر انتهاك للمبادئ الدستورية منذ نهاية عصر إعادة الإعمار عقب الحرب الأهلية. تسعى إدارة ترمب إلى فرض نموذج سلطوي للرئاسة، يُقصي المؤسسات التشريعية والقضائية، ويحوّل السلطة التنفيذية إلى أداة مطلقة تُدار بإرادة رجل واحد. هذا التوجه يُعد، وفق الصحيفة، نقيضاً صريحاً لروح الدستور الذي صُمم لمنع تركيز السلطة ولضمان التوازن بين الفروع الحكومية الثلاثة.

ما يضاعف القلق أن العديد من ممارسات ترمب تُنفذ تحت مظلة الشرعية الشكلية، مستندة إلى تفويض انتخابي حصل عليه من خلال فوزه في المجمع الانتخابي، رغم خسارته الشعبية الضئيلة. وعلى الرغم من أن بعض سياساته تحظى بشعبية نسبية – مثل التشدد في الهجرة أو تقليص الدور الحكومي في قضايا العرق  فإن جوهر المشكلة لا يكمن في محتوى تلك السياسات، بل في الأسلوب الذي تُفرض به: تجاهل للرقابة، ازدراء للقضاء، وتخويف للخصوم. في هذا السياق، تُدرك الصحيفة أن معارضة ترمب تتطلب أكثر من مجرد رفض عاطفي؛ بل تحتاج إلى جبهة وطنية واسعة تتجاوز الانقسامات الأيديولوجية وتُدافع عن آليات الديمقراطية ذاتها.

التهام تدريجي لركائز الديمقراطية

ترى The New York Times أن ترمب لم يكتفِ بانتهاك أعراف الحكم، بل انقضّ صراحة على خمس ركائز أساسية في النظام الأميركي: فصل السلطات، سيادة القانون، المساواة أمام العدالة، حرية التعبير، والحكم النزيه. في ما يخصّ السلطة القضائية، أبدى ترمب ونائبه جيه دي فانس عداءً صريحاً تجاه القضاة، رفضوا الامتثال لبعض أحكامهم، وشككوا في شرعيتهم، ما زاد من مخاوف تعرض القضاة للعنف الجسدي. أما الكونغرس، فقد فشل   لا سيما من جناح الحزب الجمهوري – في ممارسة دوره الرقابي، وغالباً ما اكتفى بالصمت أمام تجاوزات الرئيس.

في ميدان العدالة، قام ترمب باستخدام وزارة العدل كسلاح سياسي، مستهدفاً خصومه من الحزب الديمقراطي والمنظمات الليبرالية، بينما منح حلفاءه حصانة غير معلنة. ومن خلال إسكات المنتقدين، ومحاولات تجريم آراء سياسية، وسحب الحماية الأمنية من مسؤولين سابقين، خلق مناخاً من الترهيب داخل الدولة العميقة. الأشد قسوة، بحسب المقال، كانت حملة الترحيل الجماعي لأكثر من 200 مهاجر إلى سجون سيئة السمعة في السلفادور دون أي محاكمة، في سابقة قضائية خطيرة أثارت احتجاجات حتى من قضاة محافظين. هذه الانتهاكات، تضع مستقبل سيادة القانون في مهب الريح، وتُنذر بتحول الولايات المتحدة إلى نظام استبدادي مقنّع.

شرعية شكلية ومخاطر تكريس السُّلطة

بحسب المقال، فإن واحدة من أخطر الحيل التي يستخدمها ترمب لتبرير سلطويته هي الاعتماد على الشرعية الانتخابية، مع تجاهل الضوابط الدستورية. فالرئيس أعاد هيكلة مؤسسات اتحادية لتعمل ضمن أجندته الشخصية، متجاهلاً الاستقلال المؤسسي الذي يُفترض أن يُميّز الهيئات الإدارية، كوزارة العدل، أو مكاتب الرقابة المالية، أو حتى الجامعات الممولة حكومياً. كذلك، لم يتورع عن التدخل المباشر في السياسات الإعلامية، بما في ذلك تحريضه على مقاضاة وسائل إعلام كبرى مثل CBS وABC وThe Des Moines Register.

واحدة من أكثر القضايا تعبيراً عن هذا الانحراف، كما تُشير الصحيفة، تمثلت في التحقيق التعسفي مع منصة “ActBlue” لجمع التبرعات الديمقراطية، رغم عدم وجود أدلة على مخالفات. هذا النوع من الممارسات يقوّض فكرة التنافس السياسي المشروع، ويفتح الباب أمام سابقة خطيرة: استخدام مؤسسات الدولة لقمع المعارضة. ويوازي ذلك إطلاق عفو رئاسي عن متمردي 6 يناير، في رسالة واضحة بأن الولاء السياسي يعلو فوق حكم القانون. كل هذه الممارسات تُنذر بتحوّل تدريجي نحو نظام يعيد إنتاج نفسه بالقمع، حيث تُكافأ الطاعة وتُعاقب المعارضة، في تكرار لنماذج استبدادية أخرى كأردوغان وأوربان ومادورو.

خطاب الحرية… وسيف القمع

يُفاخر ترمب بأنه “أعاد حرية التعبير لأميركا”، لكن الوقائع على الأرض، بحسب المقال، تُظهر صورة معاكسة تماماً. فقد شهدت فترته الثانية حذف مئات الكتب من مكتبات الأكاديميات العسكرية، خاصة تلك التي تتناول قضايا العرق والهوية، بينها مؤلفات لأسماء بارزة كمايا أنجيلو وراندال كينيدي. وعلى صعيد السياسات، استخدم ترمب صلاحياته التنفيذية لمعاقبة من يعبّر عن آراء مخالفة، بما في ذلك موظفين فدراليين سابقين أدلوا بتصريحات تتعلّق بنزاهة الانتخابات.

وذهب الأمر حدّ استهداف طلبة أجانب بسبب مواقفهم السياسية. في إحدى الحالات، ألقي القبض على طالبة تركية من جامعة تافتس بعد نشرها مقالاً مؤيداً لفلسطين. كما تمّ إلغاء تأشيرات آخرين بسبب منشوراتهم، ما يعكس توظيف سياسة الهجرة كسلاح إسكات سياسي. الرسالة التي تبعث بها الإدارة، وفق الصحيفة، واضحة: من يعارض علناً سيدفع الثمن. بهذا، يتحوّل فضاء التعبير إلى حقل ألغام، ويُعاد تعريف “الوطنية” بمعايير الولاء لشخص الحاكم، لا لمبادئ الدستور.

الفساد المُمنهج وتجريف القيم العامة

في خضم معركة ترمب مع المؤسسات، لم يكن تعزيز المكاسب الشخصية بعيداً عن المشهد. فقد ربط الرئيس، كما تقول الصحيفة، بين النفوذ السياسي والثروة العائلية، عبر إطلاق عملات رقمية مثل “$Trump” و”$Melania”، والتي تتيح تحويلات مالية مجهولة المصدر لصالح العائلة الرئاسية. وتزامن ذلك مع تخفيف الرقابة على سوق العملات المشفّرة، رغم ما تحمله من مخاطر احتيالية موثقة.

أما على صعيد النزاهة العامة، فقد ألغى ترمب منذ اليوم الأول سياسة سلفه بايدن التي كانت تحظر قبول الهدايا الكبرى من جماعات الضغط، وأقال عشرات الموظفين المكلّفين بمراقبة الفساد المؤسسي. كما استغل منصبه لممارسة ضغط دبلوماسي على حكومة بريطانيا من أجل إقامة بطولة الغولف البريطانية في أحد ملاعبه الخاصة. هذه الممارسات، بحسب الصحيفة، لا تعبّر فقط عن انحراف أخلاقي، بل تُعمّق شعور المواطنين بأن النظام يخدم نخبة فاسدة تتلاعب بالقوانين لتحقيق ثروات شخصية، ما يقوّض ثقة الجمهور في العدالة الاجتماعية ومفهوم الدولة كمؤسسة لخدمة الجميع.

أمل واقعي: كيف يمكن كبح السلطة؟

رغم قتامة الصورة، تؤكد هيئة التحرير أن هناك هامشاً من الأمل، ينبع من حقيقة أن نسبة تأييد ترمب تراجعت إلى 40%، وأن سياساته بدأت تُثير قلق قطاعات شعبية واسعة. بخلاف نماذج كالمجر والهند حيث استطاع الزعماء الشعبويون الحفاظ على شعبيتهم أثناء تدميرهم للمؤسسات، يُواجه ترمب مقاومة مدنية وقضائية متزايدة. وتلفت الصحيفة إلى أن الرد الأكثر فاعلية لا يكمن في التصعيد الخطابي، بل في بناء تحالفات واسعة عابرة للتوجهات السياسية، تركّز على احترام الدستور، وليس على البرامج الحزبية فقط.

أحد الأمثلة الملهمة كان موقف جامعة هارفارد، حين هددتها الإدارة بقطع التمويل. بدلاً من الرد الانفعالي، اعترف رئيس الجامعة بأن بعض الانتقادات كانت مبررة، ثم خاض معركة قانونية متماسكة ضد الشروط التعسفية، بمساندة محامين محافظين، ما أكسبه تعاطفاً عاماً وأضعف موقف البيت الأبيض. هذا النموذج – الذي يجمع بين الواقعية والمبدئية – هو ما تدعو الصحيفة إلى تعميمه في معركة الدفاع عن الديمقراطية.

القضاء كجبهة مقاومة دستورية

من أبرز ملامح المقاومة القانونية ضد ترمب كانت قرارات المحكمة العليا، والتي بدأت تتخذ طابعاً أكثر حزماً. أحد أبرز الأمثلة جاء في منتصف أبريل، حين أصدرت المحكمة العليا  بسبعة قضاة من أصل تسعة – قراراً عاجلاً يمنع ترمب من ترحيل مجموعة من المهاجرين دون محاكمة. القرار لم يكن طويلاً أو مفصلاً، بل جاء في فقرة واحدة، لكن رمزيته كانت بالغة، إذ أظهر استعداد المؤسسة القضائية لوضع حدود حقيقية للرئيس، خاصة حين يتجاهل أحكامها السابقة.

هذا النوع من التحرك، كما تشير الصحيفة، يضع الرئيس في مأزق. فإذا امتثل، فهو يتراجع سياسياً، وإذا تحدّى علناً، يخسر المزيد من شرعيته أمام الرأي العام. لذا، فإن المأمول هو أن تتكامل الجهود بين القضاء، المجتمع المدني، والإعلام، لضمان ألا يكون الدفاع عن الجمهورية مجرّد ردود فعل متفرقة، بل استراتيجية ممنهجة تُعيد للدستور هيبته، وتُثبت أن الدولة ليست مزرعة شخصية، بل عقد اجتماعي تحت حكم القانون.

محمود فرحان

محمود أمين فرحان، صحفي متخصص في الشؤون الدولية، لا سيما الملف الروسي الأوكراني. عمل في مؤسسات إعلامية محلية ودولية، وتولى إدارة محتوى في مواقع إخبارية مثل "أخباري24" والموقع الألماني "News Online"، وغيرهم, حيث قاد فرق التحرير وواكب التغيرات المتسارعة في المشهد الإعلامي العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى