الهند وأميركا ضد باكستان والصين: هل تشتعل الحرب في جنوب آسيا؟
تصاعد التوترات في جنوب آسيا: الهند والولايات المتحدة في مواجهة باكستان والصين ضمن سباق تسلح جديد

في أحد الشوارع الضيقة في وادي كشمير الخاضع للسيطرة الهندية، يصطف عشرات الجنود الهنود بعتادهم الكامل، فيما تحيط بهم عربات عسكرية وأخرى مصفحة. هذا المشهد الذي قد يبدو عادياً في منطقة مشتعلة منذ عقود، يحمل اليوم دلالات أكثر عمقاً، إذ يعكس تصاعداً حاداً في الاستقطاب العسكري والجيوسياسي بين قوتين نوويتين تقليديتين: الهند وباكستان. لكن الأهم، أنه يكشف عن تحول استراتيجي دولي يتمثل في دخول قوتين عظميين إلى قلب هذا الصراع الإقليمي: الولايات المتحدة والصين.
في أعقاب هجوم إرهابي دامٍ استهدف سياحاً في كشمير الخاضعة للسيطرة الهندية، عادت الهند وباكستان إلى شفير مواجهة عسكرية جديدة، على غرار ما حدث في عام 2019. حينها، استيقظ وزير الخارجية الأميركي الأسبق مايك بومبيو على وقع تقارير استخباراتية تشير إلى تحركات مقلقة في الترسانة النووية لكل من البلدين، ما دفعه إلى إجراء اتصالات عاجلة لتفادي كارثة نووية محتملة. ورغم أن الأزمة انتهت حينها بسرعة نسبية، فإن سيناريو اليوم يبدو أكثر تعقيداً وخطورة، نظراً لتحول التحالفات العسكرية وتغير أنماط التسلح في المنطقة.
تغيّر خريطة التحالفات: نهاية عهد موسكو وبداية الهيمنة الغربية
لطالما كانت الهند حليفاً تقليدياً للاتحاد السوفيتي، ولاحقاً لروسيا، إذ استوردت منها نحو 80% من أسلحتها في العقود الماضية. إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تحولاً جذرياً، إذ قلصت نيودلهي اعتمادها على موسكو إلى أقل من 40%، مقابل صعود ملحوظ لصادرات السلاح الأميركية والفرنسية والإسرائيلية. هذا التوجه الجديد يعكس تخلي الهند، ولو تدريجياً، عن نهج “الحياد الإيجابي” الذي تبنته خلال الحرب الباردة، وتبنيها توجهاً أقرب إلى المحور الغربي بقيادة واشنطن.
ففي الفترة بين 2020 و2024، تجاوزت واردات الهند من الأسلحة الغربية نظيرتها الروسية للمرة الأولى، حيث أصبحت الولايات المتحدة، إلى جانب فرنسا وإسرائيل، الموردين الأساسيين لنظام الدفاع الهندي. وشملت هذه المشتريات مروحيات هجومية أميركية من طراز AH-64E، وأنظمة رادار متطورة، وطائرات استطلاع مسلحة.
في المقابل، وجدت باكستان نفسها مضطرة لإعادة ترتيب أوراقها، بعد أن تراجعت أهميتها الاستراتيجية للولايات المتحدة بانتهاء الحرب في أفغانستان. وبذلك، انزلقت إسلام آباد أكثر في حضن بكين، التي أصبحت اليوم المصدر الرئيسي لأكثر من 80% من الأسلحة الباكستانية، وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI).
المواجهة الجيوسياسية: واشنطن ونيودلهي ضد بكين وإسلام آباد
التحالفات الجديدة أعادت رسم خريطة الاصطفاف في جنوب آسيا، وحوّلت النزاع الهندي-الباكستاني إلى ساحة صراع غير مباشر بين الولايات المتحدة والصين. فبينما تسعى واشنطن لتعزيز شراكتها مع نيودلهي ضمن استراتيجية احتواء النفوذ الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، تمضي بكين في تعميق علاقاتها الدفاعية والاقتصادية مع إسلام آباد، واصفة إياها بـ”الصديق الحديدي”.
وتعكس هذه التحالفات مدى هشاشة الوضع في منطقة تزداد فيها أهمية الردع النووي، ويقل فيها هامش الخطأ. فكل تصعيد بين الهند وباكستان اليوم، لم يعد شأناً إقليمياً فحسب، بل أصبح ملفاً مركزياً في التوتر الأميركي-الصيني المتفاقم، خصوصاً بعد أن وصلت علاقات البلدين الكبيرين إلى أدنى مستوياتها منذ عقود، في ظل الحروب التجارية والتقنية المتصاعدة.

إرث الحرب الباردة وأشباح المستقبل
حتى وقت قريب، كانت الهند تحاول الحفاظ على توازن بين شركائها القدامى والجدد. فقد استمرت في شراء بعض المعدات من روسيا، خاصة الطائرات والدبابات وقطع الغيار. أما باكستان، فقد واصلت العمل مع الولايات المتحدة في ملفات محددة، مثل برنامج الطائرات المقاتلة F-16، والذي بقي استثناءً نادراً في ظل التوترات بين الطرفين.
لكن هذا التوازن لم يعد مستداماً. ففي الاشتباكات التي وقعت عام 2019، استخدمت باكستان مقاتلات F-16 لإسقاط طائرة هندية من طراز “ميغ-21″، وهو ما أثار احتجاجاً من نيودلهي بدعوى أن الصفقة مع واشنطن كانت مخصصة لمهام مكافحة الإرهاب فقط. ومع أن المسؤولين الأميركيين حاولوا طمأنة الطرف الهندي، فإن الوثائق الدبلوماسية أظهرت إدراك واشنطن المسبق لاستخدام إسلام آباد لتلك الطائرات في صراعات محتملة مع الهند.
منذ ذلك الحين، ضخّت نيودلهي مليارات الدولارات في تحديث قواتها المسلحة، بهدف تعزيز قدراتها على مواجهة أي تهديدات مستقبلية من الجبهتين الباكستانية أو الصينية. أما باكستان، فقد عززت تعاونها العسكري مع بكين، لا سيما في مجالات الطائرات بدون طيار، والدفاعات الجوية، ونظم الحرب الإلكترونية.

كشمير مجدداً.. بؤرة التوتر العابر للحدود
الهجوم الإرهابي الأخير في كشمير، والذي أسفر عن مقتل عدد من السياح، لم يكن مجرد حادث أمني عابر، بل شكّل شرارة لأزمة إقليمية متصاعدة. إذ سارع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى التواصل مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونائبه جي. دي. فانس، طالباً دعماً دبلوماسياً لموقف بلاده. وكان الرد الأميركي حازماً: دعم حق الهند في “الدفاع عن نفسها”، مع دعوات ضمنية لضبط النفس.
في المقابل، التزمت موسكو الصمت النسبي، ولم يتحدث بوتين مع مودي إلا بعد مرور أسبوع كامل على الحادث، مما أُعتبر مؤشراً على تراجع الدور الروسي في جنوب آسيا. أما الصين، فقد ساندت باكستان علانية، وأكدت دعمها لـ”شراكتها الاستراتيجية الدائمة” مع إسلام آباد.

مخاطر الانزلاق.. والأخطاء القاتلة
المشكلة الحقيقية في المشهد الحالي لا تكمن فقط في كثافة التسلح أو في كثرة الحلفاء الدوليين، بل في هشاشة الواقع الميداني نفسه. فالطائرات المقاتلة من الجانبين تطير في ممرات جوية ضيقة، وسط غياب الثقة، ووجود قادة عسكريين ميدانيين لا يملكون دائماً حرية التقدير أو هامش المناورة.
وفي ظل خطاب قومي متصاعد في كل من نيودلهي وإسلام آباد، فإن أي اشتباك جديد قد يتحول بسرعة إلى تصعيد يصعب احتواؤه. كما أن اندلاع مواجهة ثلاثية – بين الهند، باكستان، والصين يظل احتمالاً قائماً في ظل النزاعات الحدودية بين نيودلهي وبكين، وخاصة على طول خط السيطرة في الهيمالايا.

سباق التسلح الجديد: من الجنوب الآسيوي إلى المسرح العالمي
ما يجري اليوم في شبه القارة الهندية يتجاوز كونه مجرد تجدد لصراع قديم. إنه جزء من إعادة تشكيل كبرى لنظام عالمي خرج عن معادلات الحرب الباردة، ويدخل الآن مرحلة سيولة غير مسبوقة. فالهند لم تعد تلك الدولة المترددة التي توازن بين القوى، بل أصبحت شريكاً عسكرياً نشطاً في منظومة تقودها واشنطن. وبالمثل، لم تعد باكستان تحاول التوفيق بين الشرق والغرب، بل أرست تحالفاً وثيقاً مع بكين.
وفي ظل هذا التشكل الجديد، تصبح كل أزمة في كشمير أو على الحدود الهندية-الصينية بمثابة اختبار لصلابة تلك التحالفات، ولقدرة العالم على احتواء صراعات قد تتدحرج بسرعة إلى مواجهة مفتوحة بين قوى نووية كبرى.