"أطفال غزة بين الجوع والقصف: صمت العالم جرح أخلاقي لا يُشفى"
أمام معاناة الأطفال في غزة، يتجلى العجز الإنساني وتُختبر ضمائر البشرية.

خلال الأشهر الماضية، امتلأت شاشة هاتفي بصور ستبقى عالقة في ذهني إلى الأبد: أطفال جثث هامدة، جرحى يتألمون، يتضوّرون جوعًا، رُضّع يصرخون على صدور آبائهم وأمهاتهم، وصغار يرتجفون من شدّة الغارات. في كل مرة، أتأرجح بين الرغبة في الهروب من هذه الصور المؤلمة، والخشية مما قد يأتي بعدها، وبين الحاجة الأخلاقية العميقة لأن أكون شاهدة على هذه المأساة.
الوجع المقارن: بين أطفال الحرب وأطفال الأمان
ما يحدث في غزة يترك أثرًا نفسيًا عميقًا في نفوس من يتابعونه. وسط صور الرعب، تبرز لقطات أخرى لأطفال يبتسمون في أماكن آمنة، فتبدو المقارنة موجعة حد الانكسار. هؤلاء الأطفال الناجون في أماكن أخرى… كان من الممكن أن يكونوا هم أنفسهم ضحايا، لولا اختلاف الجغرافيا والقدر.
حرب على الطفولة: الجوع كسلاح إبادة جماعية
رغم الحراك العالمي المتزايد، من تظاهرات وتبرعات ونداءات إنسانية، ما زال النزيف مستمرًا. وبحسب تقارير الأمم المتحدة، فإن نحو 14 ألف رضيع في غزة يعانون من سوء تغذية حاد وشديد. لا يمكن وصف هذا الوضع إلا بأنه “تجويع متعمّد”، و”المجاعة كسلاح حرب”، كما قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش”، مؤكدة أن ذلك يعدّ “أداة للإبادة”.
الضرر الأخلاقي: صدمة العجز أمام الألم
هذا العجز في مواجهة الموت والدمار يولّد نوعًا من الصدمة النفسية يُعرف بـ”الضرر الأخلاقي”، وهي الحالة التي يُجبر فيها الإنسان على التخلي عن قِيَمه أو يُمنع من التصرف بما يمليه عليه ضميره.
المسعفون والآباء… عذاب يومي لا يُحتمل
في غزة، يختبر الأطباء والممرضون وأفراد فرق الإغاثة هذا الضرر الأخلاقي بشكل يومي، إذ يشاهدون أطفالًا يحتضرون بين أيديهم وهم بلا أدوات أو أدوية تنقذهم. أما الآباء، فيعيشون معاناة قاسية وهم يرون أبناءهم يتلوّون جوعًا، دون قدرة على توفير لقمة تسدّ رمقهم.
صورة تختزل المأساة: حديثو الولادة في سرير واحد
أتذكّر صورة حديثة من مستشفى الشفاء: سبعة رُضّع يتشاركون سريرًا واحدًا، يحاول الأطباء جاهدين إنقاذهم. أفكر كثيرًا في أمهاتهم، في اللحظات التي أنجبن فيها وسط هذا الجحيم، وأتساءل: كم منهنّ نجت؟ وماذا حدث للطواقم الطبية التي لا تزال تقاوم؟
الذنب عن بُعد: ألم من خلف الشاشة
بدأت أطرح تساؤلات عن شكل جديد من المعاناة النفسية: “الذنب بالوكالة”، أو الشعور بالذنب عن بعد. لا أدّعي أن معاناتنا تشبه معاناة أهل الميدان، لكن العجز عن تغيير الواقع، أو حتى الإسهام في تغييره، يولّد شعورًا داخليًا بالانكسار والعار.
أمومة ممزوجة بالمرارة
كأم، أعيش تناقضًا مؤلمًا: ألبّس طفلي بيجامته النظيفة، أطعمه بهدوء، أسمع زقزقة الطيور خارج النافذة، وأفكر في آلاف الأطفال الذين لا يجدون غطاءً ولا قطرة حليب. هل يمكن اعتبار هذا أيضًا نوعًا من الضرر الأخلاقي؟ حين تدرك أن الأمان الذي تهبه لطفلك لا يمكن أن تنقله للآخرين.
هل تآكلت إنسانيتنا؟
كنت أؤمن أن الإنسانية تتفق على حماية الأطفال، وأن مشاعر الرحمة لا تعرف حدودًا. اليوم، لم أعد واثقة من ذلك. فالصمت، والتجاهل، والتواطؤ، كلها شروخ في هذا الإيمان العميق.
فقدان الإيمان بمنظومة العالم الأخلاقية
بتّ أفقد إيماني شيئًا فشيئًا، ليس فقط بالحكومات أو المؤسسات، بل بالنظام الأخلاقي العالمي بأكمله. هذه الحرب علمتني أن الرحمة أصبحت امتيازًا، وأن هناك من يضع شروطًا للشفقة وحدودًا للتعاطف.
ما بين الغضب واللامبالاة: أي مستقبل أخلاقي نختار؟
قد يقودنا هذا الصمت الجماعي إلى حالة من البلادة الأخلاقية، وهو ما تراهن عليه بعض الأنظمة السياسية. لكن يمكن لهذه المشاهد المفجعة أن توقظ غضبًا أخلاقيًا واسع النطاق. أرجو أن يكون هذا هو الطريق الذي نسلكه، لا طريق اللامبالاة.
غزة غيّرتني… إلى الأبد
بعد 18 شهرًا من هذه المأساة، تغيّرت داخليًا. لم أعد أؤمن بأن الإنسانية محصّنة ضد الوحشية. غزة علّمتني أن الشفقة لا تعني بالضرورة العدالة، وأنها غالبًا لا تتجاوز حدود الجغرافيا.