أسرار موناكو السوداء: كيف تحوّل مدير أموال الأمير إلى عدو العرش؟
الأمير، ومدير أمواله، وفضيحة الفساد التي تهز أركان موناكو

في أحد أزقة موناكو الخلفية، بعيدًا عن الواجهة الساحلية البراقة والمشهد الخيالي لكازينو مونتي كارلو، دار تحقيق دام يومين داخل مقر الشرطة الرمادي والمجهول نسبيًا. لم تكن تلك الأيام مجرد استجوابات روتينية، بل كانت لحظة مفصلية في تاريخ إمارة اعتادت على الصمت والتكتم. الجالس على كرسي الاتهام لم يكن شخصًا عاديًا، بل كلود باليمرو، المحاسب الأنيق الذي أمضى أكثر من عقدين كحارس سر وأمين مال لأمير موناكو، ألبرت الثاني. الآن، يتداعى هذا التحالف الطويل وسط اتهامات بالفساد وسوء الإدارة، مهددًا صورة الإمارة كمركز للثراء والنقاء المالي، وكاشفًا عن صراعات خفية على السلطة والثروة.
من أمين الصندوق إلى محور العاصفة
شغل كلود باليمرو منصب “مدير ممتلكات الأمير” لعقود، وهو منصب ورثه عن والده يمنحه سلطة واسعة على ثروة الأمير الخاصة، الممتدة من العقارات إلى التحف. وخلال هذه السنوات، لم يكن مجرد مدير مالي، بل مستودع أسرار ووسيطًا موثوقًا بين أفراد العائلة الأميرية. إلا أن تسريبات وثائق عام 2023 فجرت أزمة كبرى، متهمة إياه بسلسلة من صفقات الفساد وغسل الأموال، ليتحول من ظل هادئ خلف الأمير إلى متهم بارز في أكبر أزمة تواجه الأسرة الأميرية منذ قرون.

رسالة الأمير القصيرة التي أشعلت الفتيل
في مايو 2023، وجه الأمير ألبرت رسالة نصية مقتضبة إلى مدير أمواله: “أشعر بأني مضطر إلى كسر الصمت… للإشارة إلى أن وقت الاستراحة قد انتهى.” كانت الرسالة إيذانًا ببدء حملة تطهير داخل الديوان الأمير، طالت عشرات المسؤولين والمستشارين المقربين. لم يكن القرار مجرد إنهاء لعلاقة مهنية، بل بداية لانكشاف طبقات من الصراعات المالية والخلافات الشخصية داخل العائلة الحاكمة.

الدفاتر السرية وتفاصيل الحياة الخاصة
بعد الإقالة، ظهرت دفاتر شخصية احتفظ بها باليمرو، توثق إنفاق الأمير على أبنائه غير الشرعيين، وهبات مالية لشريكات سابقات، ومصاريف الأميرة شارلين المنفصلة عنه. هذه الدفاتر، التي نشرتها صحف فرنسية، مزجت الخاص بالعام، وكشفت عن استخدام المال العام لتغطية تفاصيل الحياة الشخصية، ما زاد من تعقيد الفضيحة وحدّة الجدل العام داخل وخارج موناكو.

دعوى قضائية غير مسبوقة في تاريخ آل غريمالدي
في سبتمبر 2023، صعّد الأمير النزاع ورفع دعوى جنائية ضد باليمرو، بمشاركة شقيقتيه، بتهم تتراوح من خيانة الأمانة إلى التزوير وغسل الأموال. ولأول مرة منذ 700 عام، يتخذ حاكم موناكو خطوة قضائية علنية بهذا الحجم ضد أحد رعاياه، في سابقة هزّت تقاليد الحكم السرية التي طالما ميّزت الإمارة.

التحقيقات المالية والغموض المتراكم
أثناء التحقيق، طُرحت أسئلة على باليمرو بشأن تحويلات غامضة، منها مبلغ 15.9 مليون دولار وصل إلى شركة استخدمت لدعم نيكول كوست وابنها من الأمير، وكذلك تحويلات أخرى اعتبرها المدققون “مشبوهة”. باليمرو دافع عن نفسه بالقول إن كل العمليات كانت تهدف إلى حماية سمعة العائلة وتلبية طلبات الأمير الخاصة دون ترك أثر محرج، مؤكدًا أن كل ما فعله تم بعلم الأمير وبهدف حمايته من الفضائح.

هيكل مالي مبهم ومعقد
عقب إقالته، حاول فريق الأمير الجديد تفكيك هيكل الأصول التي كان باليمرو يديرها، لكنهم وجدوا أنفسهم أمام شبكة شركات واستثمارات يصعب تتبعها. وصف خليفته، سليم زغدار، الوضع بأنه “هيكل متعدد الطبقات صُمم لإخفاء الحقيقة”. بل إن الأمير عبّر عن قلقه من احتمال اختفاء أجزاء من ثروته إلى الأبد في حال حدث شيء مفاجئ لباليمرو.

تشابك المصالح واستثمارات مشبوهة
كشفت التحقيقات أن باليمرو كان يستثمر أمواله الشخصية إلى جانب العائلة الأميرية، وهي ممارسة اعتبرها “وسيلة لضمان تقاطع المصالح”، لكنها فتحت باب الشكوك حول تضارب الأهداف واستغلال النفوذ. كما تم الكشف عن شراء أجهزة تجسس وطائرات مسيّرة بأموال القصر، وهو ما اعتبره بعض المحققين محاولة لرصد أشخاص مرتبطين بتسريبات 2021.
صورة الأمير: بين الرياضي الودود والزعيم المرتبك
لطالما ظهر الأمير ألبرت بصورة الزعيم المتواضع، الرياضي، والمهتم بالبيئة. إلا أن هذه الأزمة كشفت جانبًا آخر من شخصيته، يتسم بالإهمال المالي والاعتماد المفرط على المقربين. حتى تبرعاته المخططة إلى جامعته السابقة، والتي فشل في تحقيقها بسبب نقص السيولة، تحوّلت إلى أداة طعن ضده من قبل منتقديه، الذين رأوا في تصرفاته دليلًا على العمى المالي والركون إلى الولاء على حساب الكفاءة.
مستقبل الإمارة بين الشفافية والتقليدية
في بيان رسمي، أكد محامي الأمير أن التحقيق مستمر، وأن الأمير ملتزم بإصلاح منظومة الحوكمة. لكن مراقبين يرون أن ما يجري يتجاوز مجرد فضيحة مالية، بل يشكل اختبارًا لمستقبل الحكم في موناكو. هل ستتجه الإمارة إلى مزيد من الشفافية وتفكيك شبكات الولاء القديمة؟ أم ستكتفي بتحميل مدير المال كل الأخطاء، في محاولة لإعادة بناء الثقة المفقودة؟