نجيب الريحاني.. من باب الشعرية إلى قمة الفن.
في ذكرى رحيله.. نستعيد سيرة "الضاحك الباكي" الذي منح البسمة للملايين وأخفى وجعاً عميقاً في قلبه

في حي باب الشعرية الشعبي، وُلد نجيب الريحاني عام 1889 لأب عراقي وأم مصرية. نشأ وسط البسطاء، وعرف منذ صغره ملامح الحياة القاسية، لكنه كان يملك روحاً مرحة وعيناً ساخرة ترى العالم كما هو، دون أقنعة. وبدأت موهبته الفنية تظهر مبكراً، وتفتحت على خشبة المسرح، حيث وجد ملاذه الحقيقي. لم تكن الرحلة سهلة، بل شق طريقه وسط التحديات بإصرار وذكاء نادر.
شراكة صنعت التاريخ
كان اللقاء بينه وبين الكاتب بديع خيري نقطة تحول في حياته الفنية. شكّلا معاً ثنائياً فنياً لا يُنسى، وابتكرا أعمالاً مسرحية قريبة من نبض الشارع المصري، تسخر من الفساد، وتنتقد التخلف، وتحاكي البسطاء في همومهم اليومية.
شخصية “كشكش بيه” التي ابتكرها الريحاني أصبحت رمزاً للطبقة الإقطاعية الساذجة، وأداة فنية لفضح مفارقات المجتمع، في وقت كان المسرح أداة للتنوير والتغيير.
الضحك وسيلة للنقد.. لا للهروب
لم يكن نجيب الريحاني مجرد “كوميديان”، بل كان مفكراً يضحك الناس وهو يوجعهم بالحقيقة. لم يكتفِ بتسلية الجمهور، بل حمل رسائل اجتماعية وسياسية بين السطور، في قالب ساخر يمسّ القلب والعقل معاً. وفي مسرحياته، عبّر عن الإنسان المهمَّش، البسيط، الذي يُصارع الحياة بحكمة فطرية وابتسامة خجولة. كانت الكوميديا عنده نوعاً من المقاومة.. مقاومة اليأس.
الوداع الأخير في “غزل البنات”
في عام 1949، قدّم الريحاني آخر أعماله السينمائية، فيلم “غزل البنات”، الذي شاركه فيه محمد عبد الوهاب وليلى مراد، وظهر فيه في دور المعلم الطيب، البسيط، العاشق في صمت.
رغم أن الفيلم حقق نجاحاً كبيراً، لم يعش الريحاني ليراه، إذ رحل قبل عرضه بقليل، وكأن القدر كتب عليه أن يغادر على طريقته.. بهدوء، دون ضجيج، بعد أن أهدى جمهوره لحظة صادقة من الجمال.
الضاحك الباكي.. رمز إنساني خالد
لقّب نجيب الريحاني بـ”الضاحك الباكي”، وهو وصف عميق لرجل صنع البهجة بينما كان يحمل في داخله أعباء الحزن والوحدة. ولم يكن مهتماً بالمظاهر أو الأضواء، بل بالفن الصادق الذي يعيش بعد رحيل صاحبه.
إرث لا يُنسى
اليوم، وبعد أكثر من سبعين عاماً على رحيله، ما زالت كلماته تُردد، وأعماله تُعرض، وضحكته تلمع في الذاكرة كأثر لا يزول.
نجيب الريحاني لم يكن مجرد فنان، بل كان وجداناً مصرياً نقياً، ترك لنا كنزاً من الضحك المشبع بالمعنى، وأسلوباً في الحياة يرى في البساطة عظمة، وفي الألم جمالاً إنسانياً نادراً.
“أنا ممثل يعيش ليُضحك الناس.. لا أكثر، ولا أقل، لكني كنت أتمنى أن يفهمني أحد”، هكذا قال يوماً، وقد فهمه الناس بعد الرحيل أكثر مما فعلوا في حياته.
رحم الله نجيب الريحاني.. الضاحك الذي أبكانا حين غاب.