التراجع عن العمل عن بُعد.. قرارات العودة للمكاتب ليست دائمًا كما تبدو
يبدو أن حياة فيليبو غوري، أحد كبار المصرفيين في بنك "جي بي مورغان"، لا تعرف الهدوء.

يبدو أن حياة فيليبو غوري، أحد كبار المصرفيين في بنك “جي بي مورغان”، لا تعرف الهدوء. فبعد أن قاد أعمال البنك في منطقة آسيا والمحيط الهادئ من مقره في هونغ كونغ، انتقل العام الماضي إلى لندن لتولي منصبين كبيرين: رئيسًا مشاركًا للقطاع المصرفي العالمي، ورئيسًا لمنطقة أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا (EMEA).
من المنطقي ظاهريًا أن يكون مقره في لندن بالنظر إلى نطاق مسؤولياته الجديدة، لكن المفاجأة أن غوري يستعد للرحيل مجددًا — وهذه المرة إلى نيويورك، بعيدًا تمامًا عن أي عاصمة في المنطقة التي يشرف عليها.
قد لا يهتم كثيرون بالتنقلات الجغرافية لكبار المصرفيين، لكن هذه الخطوة تطرح مفارقة مثيرة: كيف يمكن لمسؤول يشرف على مدن مثل لاغوس ودبي ولندن أن يباشر مهامه من قلب مانهاتن؟!
العودة إلى المكاتب للجميع… باستثناء الكبار؟!
المصادر المقربة من البنك تقول إن غوري سيقضي نصف وقته على الأقل في منطقة EMEA وسيظل “حاضرًا بقوة بين الموظفين والعملاء”. وقد يكون هذا صحيحًا، لكنه يظل استثناءً في مؤسسة فرضت على آلاف الموظفين هذا العام العودة إلى العمل من المكتب خمسة أيام في الأسبوع، تنفيذًا لرؤية المدير التنفيذي جيمي ديمون، الذي لا يخفي ازدراءه لثقافة العمل عن بُعد ويعتبرها ضارة بالإنتاجية والإبداع وتطور الكوادر الشابة.
غير أن ما يراه ديمون لا يشاطره فيه الجميع. إحدى التعليقات الساخرة على خبر انتقال غوري لخصت المشهد بعبارة: “العودة للمكتب لكم.. والعمل من نيويورك لي!”
قد يكون هذا الانتقاد غير منصف، فدور غوري العالمي يبرر وجوده في نيويورك، مركز المال العالمي. لكن الواقع يفرض نفسه: كبار المديرين دائمًا ما يتمتعون بهوامش حرية لا يحلم بها الموظف العادي — وهو الموظف نفسه الذي لا يزال يتمسك بما تمنحه إياه بيئة العمل المرنة من راحة وتوازن.
مفارقات البيانات: الأوامر تكثر.. والعودة لا تتحقق
هذا التباين يفسر جزئيًا ظاهرة حيّرت الكثيرين: رغم موجة الأوامر الصارمة بالعودة إلى المكاتب من شركات كبرى مثل أمازون و”بي دبليو سي” والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب نفسه (الذي أمر موظفي الحكومة بالعودة الكاملة في يناير 2025)، فإن معدلات العمل عن بُعد لم تتراجع فعليًا.
تشير الدراسات إلى أن نسبة الموظفين الأمريكيين الذين عملوا من المنزل قبل الجائحة كانت أقل من 10%. وبعد أن قفزت النسبة إلى أكثر من 60% أثناء الجائحة، استقرت منذ أواخر 2023 عند حوالي 27% — وهو رقم لم يتغير حتى يونيو 2025.
حتى مع تزايد التعليمات الرسمية بالعودة، فإن الامتثال لها ليس مضمونًا. فبحسب آخر البيانات، فإن 43.5% من العاملين عن بُعد قالوا إنهم تلقوا أوامر بالعودة إلى المكتب خلال الأشهر الستة الماضية — ارتفاعًا من 39% نهاية 2024. ورغم أن نسبة من يوافقون على هذه العودة ارتفعت من 46% إلى 49%، فإن نصفهم لا يزال يفكر في الاستقالة أو البحث عن وظيفة أخرى.
ويمكنك المراهنة أن احتمالات الاستقالة ستكون أعلى إذا كان رئيسهم يتمتع بحرية العمل من نيويورك بينما يُطلب منهم الالتزام بالمكتب المحلي!
الخلاصة:
قرارات العودة إلى المكتب تبدو، على الورق، نهائية وحازمة. لكن الواقع أكثر مرونة مما يظنه صناع القرار — خاصة حين يكون الكبار أنفسهم أول من يلتف على تلك القرارات. وفي عالم لا يزال يُعيد اكتشاف التوازن بين العمل والحياة، يبدو أن ثقافة العمل الهجين ستبقى معنا لفترة أطول مما يتخيله المديرون التنفيذيون.