حين يصبح الذهب أخطر من الكوكايين: عصابات تغزو المناجم وتبتلع الغابات
ذهب أكثر من المخدرات: كيف تحوّل المعدن النفيس إلى وقود لعصابات أمريكا اللاتينية

في الوقت الذي تشهد فيه أسعار الذهب العالمية ارتفاعًا تاريخيًا غير مسبوق، يبرز وجه خفي لهذا الازدهار لا يقل خطورة عن الحروب والنزاعات التي تغذيه: تحول الذهب إلى نشاط إجرامي منظّم يتجاوز في مردوده تجارة المخدرات، ويغرق أجزاء واسعة من أمريكا اللاتينية في العنف والفساد. تقرير حديث لمجلة The Economist (26 يونيو 2025) يكشف كيف أصبحت مناجم الذهب غير القانونية في بيرو وكولومبيا والبرازيل ساحة صراع دموية بين عصابات منظمة، بعضها أعاد توجيه أرباحه من تجارة الكوكايين إلى التنقيب عن الذهب، الذي بات أكثر أمنًا وربحًا وأقل مخاطرة.
بينما تُروَّج صورة الذهب كملاذ اقتصادي، فإن الواقع على الأرض مختلف تمامًا. في بيرو وحدها، يُقدّر أن 44% من صادرات الذهب تأتي من مصادر غير قانونية. وفي غابات الأمازون، تتكامل شبكات تعدين الذهب مع ممرات تهريب الكوكا والمخدرات، مدعومة أحيانًا بعلاقات مشبوهة مع مسؤولين وجنرالات. بل إن حكومات مثل فنزويلا وبوليفيا تُتهم بتسهيل هذا النشاط أو التغاضي عنه، مقابل مكاسب سياسية أو مالية.
هكذا، ومع كل ارتفاع جديد في سعر الأوقية، لا يزداد فقط ربح المستثمرين، بل أيضًا نفوذ الميليشيات والمجرمين، في معادلة جيوسياسية واقتصادية تهدد استقرار القارة بأسرها.
احتجاجات العمال.. ودماء الحراس
في قلب مدينة تروخيو الساحلية شمالي بيرو، دوّى هتاف آلاف عمال المناجم، كثير منهم قدموا من مقاطعة باتاز النائية، حيث شهدت البلاد مؤخرًا واحدة من أكثر حوادث العنف المروعة عندما قُتل 13 حارسًا في منجم للذهب على يد عصابة مسلحة. ومع أن الحكومة فرضت حظرًا على التعدين في المنطقة لمدة شهر، إلا أن المحتجين طالبوا بالعودة إلى أعمالهم، مؤكدين: “عمال مناجم باتاز ليسوا مجرمين.. نطالب بحقنا في العمل”.
لكن خلف هذه المطالب العمالية يكمن واقع أكثر سوداوية. فبيرو، المنتج الأكبر للذهب في أمريكا اللاتينية، تواجه تصاعدًا غير مسبوق في العنف بسبب انتشار التعدين غير القانوني، وهو عنف دفع شركة “بوديروسا” إلى التقدير بأن 39 من عمالها قُتلوا خلال السنوات الثلاث الماضية، واكتشاف مقابر جماعية وموجات من التفجيرات والاشتباكات المسلحة.
الذهب.. استثمار جديد لعصابات الكوكايين
تزايد الإقبال على الذهب لم يأتِ من المستثمرين وحدهم، بل أيضًا من تجار المخدرات. منذ الأزمة المالية العالمية في 2008، ومع تصاعد الطلب في آسيا وتنامي التوترات الجيوسياسية، تجاوز سعر الذهب حاجز 3,500 دولار للأوقية. وفي الوقت نفسه، تضاعفت زراعة الكوكا – المصدر الرئيسي للكوكايين – في بوليفيا وكولومبيا وبيرو منذ 2010، ما دفع العصابات إلى البحث عن بديل أكثر استقرارًا وربحًا.
وهكذا أصبحت المناجم غير القانونية في الأمازون ملاذًا استثماريًا لعصابات المخدرات، حيث تُستخدم نفس المدارج والممرات والبنية التحتية التي تُستغل في تهريب الكوكايين، وتُغسل أموال تجارة المخدرات عبر الذهب المستخرج وبيعه كمعدن قانوني.
أرباح الذهب تفوق المخدرات
تشير التقديرات إلى أن العصابات في بيرو وكولومبيا باتت تجني من الذهب أكثر مما تجنيه من تجارة الكوكايين. ففي عام 2024، بلغت قيمة صادرات الذهب غير القانوني من بيرو 4.8 مليار دولار، أي ما يعادل 44% من إجمالي صادراتها من المعدن، مقارنة بـ20% فقط قبل عقد. وفي البرازيل، جنت العصابات ما يفوق 3 مليارات دولار من مبيعات الذهب غير المشروع، متجاوزة أرباحها من المخدرات.
من مناجم الذهب إلى قاعات السلطة
العصابات لا تسيطر فقط على المناجم، بل تتمدد لتصل إلى صلب الأنظمة السياسية. ففي فنزويلا، يُسمح للجيش بالتحالف مع مافيات التنقيب مقابل الولاء لنظام مادورو. وفي كولومبيا، منجم “بوريتيكا” العملاق أصبح ساحة صراع بين مستثمرين صينيين و2000 عامل مدعومين من “عصابة الخليج”، التي سرقت ما قيمته 200 مليون دولار من الذهب خلال عام واحد.
وفي بوليفيا، تتغاضى الحكومة عن تجاوزات التعاونيات الصغيرة التي تستخرج أغلب ذهب البلاد. وبينما يُفترض أنها غير ربحية، تتوسع هذه الجماعات خارج حدود التراخيص وتخالف القوانين البيئية، بل وتتلقى دعمًا غير مباشر من الدولة في ظل أزمة صرف أجنبي دفعت البنك المركزي إلى شراء الذهب المحلي بقيمة 1.3 مليار دولار لتعزيز الاحتياطي، وسط اتهامات بتورط وسيط حكومي في تبييض ذهب الأمازون.
الغابات تدفع الثمن
حتى في غياب الاشتباكات المباشرة، يظل أثر التعدين غير القانوني كارثيًا على البيئة. فقد تم تدمير أكثر من مليوني هكتار من غابات الأمازون حتى نهاية 2024، كثير منها داخل محميات يفترض أنها محمية. كما أدى استخدام الزئبق في فصل الذهب عن الصخور إلى تلويث الأنهار، ما ألحق أضرارًا بالغة بالنظم البيئية وصحة السكان.
وفي البرازيل، يحاول الرئيس لولا دا سيلفا تضييق الخناق على “الغاريمبيروس”، أو منقبي الذهب غير القانونيين، الذين ازدهروا خلال عهد بولسونارو. لكن كثيرًا منهم فروا إلى فنزويلا حيث يمكنهم “شراء” الحماية من الجيش.
قوانين عرجاء ومنظومات فاشلة
بيرو حاولت تقنين القطاع عبر إنشاء سجل مؤقت للمعدنين غير المرخصين يُعرف باسم REINFO، يمنحهم مهلة لتوفيق أوضاعهم القانونية، لكنه فشل فشلًا ذريعًا؛ إذ لم يتمكن سوى 2.3% من المسجلين من الحصول على تراخيص. وبدلًا من ضبط الفوضى، أصبح البرنامج غطاءً قانونيًا للعصابات التي تشتري أو تسرق أوراق التسجيل لغسل الذهب غير الشرعي.
ومع اقتراب انتهاء صلاحية البرنامج في 30 يونيو الجاري، من المتوقع أن يتم تمديده مجددًا، خاصة بعد أن شهدت شوارع ليما احتجاجات حاشدة يقودها أشخاص يُشتبه في ارتباطهم بالعصابات.
الطريق المسدود.. والحاجة لتغيير شامل
في ظل تصاعد العنف وضعف الدولة، يخشى البعض أن يعيد التاريخ نفسه، مثلما حدث في ثمانينيات بيرو حين سيطرت جماعات مسلحة على مساحات شاسعة من البلاد. اليوم، يؤكد وزير المالية السابق لويس ميغيل كاستيا أن بلاده تسير في الاتجاه نفسه.
الحل لا يكمن فقط في الحلول الأمنية، بل في تغيير جذري لطريقة التعامل مع القطاع. ففي ميزانية 2025، خصصت بيرو 73 مليون دولار لمحاربة تجارة المخدرات، مقابل 17.5 مليون دولار فقط لمواجهة التعدين غير القانوني. ومن دون تنظيم حقيقي وموارد كافية، ستظل العصابات تنتقل من مقاطعة غنية بالمعادن إلى أخرى.. ومع كل أونصة ذهب تُستخرج، تنزف أمريكا اللاتينية مزيدًا من الدم.