قادة الناتو يتذللون لترامب… ولكن بأي ثمن؟

كانت قمة الناتو في لاهاي هذا الأسبوع استعراضًا استثنائيًا للانحناء السياسي أمام دونالد ترامب. تم تقليص الاجتماعات التي كانت مقررة ليومين إلى بضع ساعات صباحية فقط، ليس بهدف الكفاءة، بل مراعاةً لنزوات الرئيس الأمريكي وتلبيةً لنزعته نحو التركيز السريع والانتصارات الشكلية. اختُصر جدول الأعمال ليتمحور حول نقطة واحدة: زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو المطلب المتكرر لترامب، بينما جرى تهميش قضايا حيوية مثل مستقبل أوكرانيا، وفعالية الضربات الأمريكية ضد البرنامج النووي الإيراني.
قادة الحلف لم يبدوا أدنى اعتراض. بل على العكس، تحوّلت القمة إلى ما يشبه مهرجان مدح جماعي، قاده الأمين العام الجديد للحلف، مارك روته، الذي بالغ في الثناء على “حكمة ترامب” في التعامل مع إيران، ووصفه بالمُلهم الذي أعاد توجيه الناتو. بدا الأمر كما لو أن الحلف المؤسس لمواجهة تهديدات القرن العشرين أصبح فجأة “منظمة ترامب لشمال الأطلسي”، على حد وصف مستشارته السابقة فيونا هيل.
التنازلات مقابل البقاء
الهدف من هذا الاستسلام الرمزي لم يكن خافيًا: إبقاء الولايات المتحدة ضمن الحلف بأي ثمن. كان الخوف كبيرًا من تكرار ما حدث في مؤتمر ميونيخ الأمني الأخير، حين أثار جاي دي فانس وبيت هيجسِث، أبرز وجوه إدارة ترامب، صدمة أوروبية بتصريحات عدائية. هذه المرة، أراد القادة الأوروبيون تفادي أي صدام، حتى لو كلفهم ذلك كرامتهم السياسية.
وربما، من زاوية ضيقة، نجحوا في ذلك. بدا ترامب، في مؤتمره الصحفي، ملتزمًا نسبيًا بالمادة الخامسة الخاصة بالدفاع الجماعي، رغم أن تصريحاته جاءت بصياغات مبهمة مثل: “نحن هنا لمساعدتهم على حماية بلادهم”. كما أعلن بفخر أن تعهد الـ5% “إنجاز كبير”. وبالنسبة للبعض، يكفي أنه لم ينسف الحلف علنًا، ليُعتبر هذا نجاحًا نسبيًا.
ولكن… لا حلول حقيقية
ورغم هذا الهدوء الظاهري، فإن القمة لم تقدم أي حلول فعلية لأزمات الناتو المتراكمة. بل على العكس، فإن القضايا الكبرى ما زالت تراوح مكانها، بل تزداد تعقيدًا في ظل استمرار حالة الغموض التي تميز علاقة الحلف بترامب.
أوكرانيا… حرب مستمرة بلا رؤية
لم يتغير موقف ترامب من الحرب في أوكرانيا: لا دعم عسكري جديد، ولا صبر على استمرارها، بل رغبة في فرض هدنة بأي ثمن. وفي الوقت نفسه، لا تملك دول الحلف الأخرى الموارد لتعويض الغياب الأمريكي. النتيجة؟ استمرار الحرب بلا أفق، وربما إلى أجل غير مسمى. كما أشار وزير الدفاع الأوكراني السابق، أندري زاغورودنيوك، فإن على أوكرانيا أن تستعد لبناء دولة قادرة على الحياة في ظل تهديد عسكري دائم، وهي فكرة لا تستهوي ترامب.
اللامتوقع الترامبي
كل ما جرى في لاهاي تم ترتيبه بدقة، لكن إلى متى؟ لا أحد يضمن استمرار هذا الهدوء. هجمات ترامب على إيران، التي انتقلت من تهديد إلى قصف ثم إعلان للسلام خلال أيام، أكدت للحلفاء الأوروبيين أن تأثيرهم على قرارات واشنطن محدود للغاية، وأنهم معرضون دائمًا لمفاجآت غير محسوبة.
وعد 5%… حلم بعيد المنال
حتى التعهد الذي بدا وكأنه إنجاز القمة – رفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% – ليس سوى هدف طويل الأمد، وليس واقعًا. المملكة المتحدة، مثلًا، تهدف لتحقيقه في 2035، ولن تصل إليه إلا من خلال إعادة تعريف فضفاضة لمفهوم “الأمن القومي”. وفي عالم يتغير بسرعة، لا يمكن المراهنة على خطط تمتد لعشر سنوات.
الاستقلال الدفاعي الأوروبي… التحدي الأصعب
الواقع يُملي على دول أوروبا وكندا أن تطور نظامًا دفاعيًا مشتركًا لا يعتمد بالكامل على الولايات المتحدة. فمصالحهم الأمنية يجب ألا تكون رهينة مزاج ساكن البيت الأبيض. ولكن تحقيق هذا الاستقلال دون استفزاز واشنطن أو إضعاف الحلف، يُعد تحديًا شاقًا. فالصناعات الدفاعية الأوروبية ما تزال تعتمد على التكنولوجيا الأمريكية، والنخب السياسية تفتقر إلى رؤية واضحة للتحول.
خلاصة: مشهد عبثي بلا مخرج قريب
انتهت قمة لاهاي بنتيجة واحدة فقط: تجنب الأسوأ. ولكن لم تُحل أي من الأزمات الحقيقية. الحلف يعيش في لحظة توازن هش، يحاول فيها إرضاء ترامب دون أن ينهار، ويتجاهل في الوقت نفسه أن العالم لا ينتظر أحدًا.
إن لم تُراجع أوروبا نفسها بعمق، فقد تجد ذاتها ذات يوم أمام معركة وجودية، دون شريك، ودون خطة.