هل تري دوائر ام مستطيلات ؟كيف تشكل ثقافتك الطريقة آلتي تدرك بها العالم ؟
دراستان حديثتان تعيدان فتح الجدل حول الإدراك البصري والاختلاف الثقافي في تفسير الخدع البصرية، وتكشفان عن حقيقة أكثر تعقيدًا مما نظنه

هل نرى العالم كما هو، أم كما نحن؟ سؤال فلسفي قديم يعود اليوم إلى واجهة علم الأعصاب الإدراكي عبر دراستين حديثتين تناولتا الطريقة التي يفسر بها البشر الصور والخدع البصرية، ليكتشفوا أن الثقافة والبيئة التي نشأنا فيها قد تؤثر جذريًا على ما نظنه “حقيقة بصرية”.
في دراسة قادها إيفان كروبين من كلية لندن للاقتصاد، طُلب من مشاركين من المملكة المتحدة والولايات المتحدة ومجتمعات ريفية في ناميبيا النظر إلى خدعة تُعرف باسم “وهم كوفر”، وهي صورة مركبة من مستطيلات وقِطع مستديرة مخفية. بينما رأى الغربيون في الصورة مستطيلات، رأى الناميبيون دوائر.
التفسير المقترح؟ “فرضية العالم المُقعّر” – وهي فكرة عمرها أكثر من 60 عامًا تقول إن الأشخاص الذين يعيشون في بيئات مليئة بالزوايا الحادة والخطوط المستقيمة (مثل البيئات الحضرية الغربية) تصبح أدمغتهم أكثر استعدادًا لرؤية الأشكال الزاويّة. بينما من يعيشون في بيئات طبيعية أو تقليدية، حيث تنتشر الهياكل المستديرة كالأكواخ، يدركون الأشكال بطريقة مختلفة.
وهم ميلر-لاير: الطعن في نظرية “الزوايا تُشكلنا”
لكن دراسة أخرى قادها دورسا أمير وتشاز فايرستون، سعت إلى تفنيد هذا التفسير الثقافي عبر التحقق من خدعة بصرية أكثر شهرة تُعرف باسم “وهم ميلر-لاير”، حيث تبدو خطّان متساويان في الطول مختلفين بفعل السهام المرفقة على أطرافهم.
المفاجأة؟ هذا الوهم يخدع حتى الأسماك، والحمام، والسحالي، وحتى الأطفال المكفوفين الذين استعادوا بصرهم لتوّهم بعد عمليات جراحية. بل إنه يعمل حتى في التجارب اللمسية، وليس فقط البصرية.
كل ذلك يشير إلى أن تفسير الوهم لا يعتمد فقط على “الخبرة البصرية بالزوايا المعمارية”، بل ربما يرتبط بآليات عصبية أعمق وأكثر عالمية، تتجاوز الثقافة أو البيئة.
تفسير ثالث: الإدراك لا يتشكل فقط بالمكان، بل بالانتباه
فلماذا تختلف الاستجابات بين الوهمين؟ أحد التفسيرات المحتملة هو أن وهم كوفر يعتمد على آليات انتباه واختيار بصري أكثر منه على آليات إدراك شكلية. أي أن من يرى الدوائر، ربما يركز انتباهه بشكل مختلف، لا أنه “يُبرمج بصريًا” بشكل مختلف كليًا.
كما أشار النقاد إلى أن التجارب على البريطانيين والناميبيين لم تكن متطابقة في ظروفها، ما يطرح شكوكًا حول النتائج. وبالتالي، فإن النقاش لا يزال مفتوحًا، والإجابة أبعد من أن تكون نهائية.
الإدراك كـ”هلوسة متحكّم بها”: لماذا لا نرى العالم كما هو؟
في ظل هذا الجدل، يشدد البروفسور أنيل سيث، عالم الأعصاب في جامعة ساسكس، على أن الإدراك البشري هو “بناء نشط” يقوم به الدماغ باستمرار، وليس مجرد استقبال سلبي للمؤثرات. نحن لا نرى “ما هو موجود”، بل نرى أفضل تخمين يقدمه دماغنا استنادًا إلى الخبرة الحسية السابقة والمعطيات الحالية. هو ما يسميه بـ”هلوسة متحكّم بها”.

ويضيف: “كما نختلف في الطول والشكل، نختلف أيضًا في الطريقة التي نبني بها تجاربنا الإدراكية”. لذلك، فإن البحث في التنوع الإدراكي داخل المجموعات البشرية، وليس فقط بينها، يمكن أن يفضي لفهم أعمق وأدق.
التعداد الإدراكي: مشروع عالمي لفهم كيف نرى العالم فعلًا
لهذا السبب، يقود سيث وفريقه في جامعة ساسكس بالتعاون مع جامعة غلاسكو مشروعًا بحثيًا ضخمًا بعنوان “تعداد الإدراك”، يضم بيانات من أكثر من 40 ألف شخص من 100 دولة، ويتضمن أكثر من 50 اختبارًا للخدع الإدراكية، بهدف رسم خريطة عالمية لتنوع الإدراك البشري.

حين يُنشر هذا البحث، سيكون أحد أكثر الدراسات شمولًا لفهم كيف يختلف إدراكنا للحقيقة بين الثقافات، وداخلها، وبين الأفراد أنفسهم.
في الختام: كلنا في غرفة المرايا
ما يخلص إليه سيث هو دعوة للتواضع الإدراكي. “نحن لا نرى الأشياء كما هي، بل كما نحن”، كما اقتبست الكاتبة آنايس نن من التلمود. وهذا الإدراك – بأننا نعيش في غرف صدى إدراكية – هو الخطوة الأولى نحو الخروج منها.