كيف يهدم اليمين المجتمعات التقدمية؟ يبدأ الأمر دومًا بنكتة
كيف يهدم اليمين المجتمعات التقدمية؟

في عالم تزداد فيه الفجوة بين الكلمة والفعل، باتت النكتة السياسية، أو بالأحرى “التهكم المؤدلج”، من أخطر أدوات اليمين المتطرف لتطبيع الأفكار العنيفة والهدم المنهجي للمجتمعات التقدمية. فمن غلاسنبوري إلى برامج الـ”توك شو”، ومن تغريدات ساخرة إلى دعوات ضمنية للقتل، كل شيء يبدأ على هيئة مزحة – ثم ينتهي بكارثة.
سخرية اليمين: حين تتحول الدعابة إلى قنبلة
تخيل لو اقترح كاتب في صحيفة “الغارديان” قصف مؤتمر حزب المحافظين البريطاني، أو تدمير مدينة آرامدل في ساسيكس. كانت ستقوم الدنيا، ويُفصل الكاتب فورًا، وقد يُحاكم. لكن حين يقترح كاتب يميني بارز مثل رود ليدل قصف مهرجان غلاسنبوري أو مدينة برايتون الليبرالية، يردّ الإعلام المحافظ: “اهدأوا، كانت مجرد نكتة!”.
هذه “الازدواجية في المعايير” تكشف أن اليمين السياسي يستخدم النكتة كدرع وقائي لطرح أفكار متطرفة، ثم التملص منها لاحقًا بذريعة الدعابة.
“اقتلوهم بالجوع أو الرصاص”.. هل هذه مجرد فكاهة؟
في حادثة أخرى أكثر فجاجة، ظهر المعلّق اليميني لويس شافير على قناة GB News قائلاً إن الحل لتقليل عدد المعاقين الذين يتلقون إعانات هو ببساطة: “نجوّعهم… أو نطلق عليهم الرصاص”. ضحك المذيع، وردّ عليه بتهكم ساخر: “لم يعد مسموحًا بهذا هذه الأيام”، في إشارة إلى ما اعتبره “قمعًا لحرية التعبير”.
لكن هذه ليست مجرد نكتة. إنها رسالة سياسية مغلّفة بالضحك، تمهّد الطريق لتجريد فئات بعينها من إنسانيتها، وجعلها موضوعًا “مشروعًا للنقاش” أو التصفية الرمزية.
“السمّ في العسل”: الكوميديا كسلاح للتطبيع
يشير باحثون إلى ما يُعرف بـ”التيار الساخر للتطبيع” (Strategic Mainstreaming)، وهي استراتيجية يستخدمها اليمين المتطرف لطرح أفكار متطرفة عبر النكتة، لتقليل وقعها وخفض عتبة التقبّل الجماهيري.
دراسات أجريت على قنوات تيليغرام الألمانية كشفت أن المحتوى اليميني المتطرف المنتشر بشكل ساخر، يحقق تفاعلًا أعلى بكثير من ذاك المعروض بجدية، مما يسمح بتسلل الأفكار المتطرفة إلى الوعي الجمعي دون مقاومة تُذكر.
الضحك الذي يقتل: من المزاح إلى المذبحة
المفارقة المريرة هي أن الانتقال من التهكم إلى التنفيذ ليس نظريًا. فقبل ارتكابه مجزرة مسجد كرايست تشيرش في نيوزيلندا، استخدم الإرهابي برينتون تارانت ميمات ساخرة للإعلان عن نيته، بل ورسم أحدها على سلاحه.
وبعد أن قتل 51 شخصًا، انتشرت ألعاب فيديو ساخرة تحاكي المجزرة، وحوّلها اليمين المتطرف إلى مادة “ترفيهية” يتداولها على المنتديات الرقمية.
السياسيون ليسوا أبرياء من المزاح القاتل
لا تتوقف السخرية اليمينية عند المتطرفين والمهرجين الإعلاميين، بل تتسرب إلى خطاب الساسة أنفسهم. فبوريس جونسون، حين كان وزيرًا للخارجية، قال إن مدينة سرت الليبية قد تتحول إلى “دبي جديدة” بمجرد “إزالة الجثث من شوارعها”.
أما في جائحة كورونا، فقد كشف مستشاره العلمي أن جونسون اعتبر الفيروس “وسيلة الطبيعة للتخلص من كبار السن”، متسائلًا: “لماذا ندمّر الاقتصاد من أجل من سيموتون قريبًا على أية حال؟”.
حين يصبح العنف “دعابة وطنية“
نفس النمط يتكرر: الصحفي اليميني جيريمي كلاركسون اقترح أن تُجبر ميغان ماركل على “التجول عارية بينما يرشقها الناس بالبراز”، وأن يُعدم الموظفون الحكوميون المضربون عن العمل “أمام عائلاتهم”.
الرد العام؟ “لا تأخذوا الأمر بجدية.. إنها مجرد مزحة”. لكن حين تُرتكب الجرائم لاحقًا، لا يربطها أحد بتلك المزحات التي مهّدت الأرضية الثقافية لها.
دعابة “بيبي الضفدع” و”دوج”: الكوميديا في خدمة الكراهية
حتى الميمات الشهيرة مثل Pepe the Frog وDoge، التي بدأت كصور ساخرة، تم استغلالها من قبل اليمين المتطرف لنشر رموز عنصرية وتمجيد النازية. وعندما يعترض أحد على ذلك، يُتهم بأنه “يفتقر لحس الدعابة”.
هذه الرموز وجدت طريقها لاحقًا إلى خطابات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وحتى إلى تسميات حملات إيلون ماسك. في كلا الحالتين، الميم أصبح وسيلة لتطبيع الخطاب المتطرف تحت قناع المرح.
السخرية ليست هامشًا.. إنها جوهر السلطة
في الختام، يؤكد مونبيوت أن السخرية السياسية اليمينية ليست مجرد شوائب أو “أصوات هامشية”، بل تمثل امتدادًا حقيقيًا لما تفكر فيه قوى الهيمنة، وإن لم تستطع قوله صراحة.
إنهم لا يسخرون فقط من الضحايا، بل يسخرون منا جميعًا، وهم يوسّعون مجال الممكن سياسيًا وأخلاقيًا.
أقرأ ايضا
ستيف بانون يتحدث بعد السجن: “ترامب لن يغيب عن ذاكرتكم