الوكالات

“صدق المظهر لا المضمون”: لماذا نحب القصص الجيدة حتى لو لم تكن حقيقية؟

حين تهزم القصة الحقيقة: لماذا نصدّق ما نحب سماعه؟

وسط ضجيج الأخبار والمحتوى السريع، يبدو أن البشر لا يزالون أسرى للقصص المؤثرة، حتى إن كانت زائفة أو مشكوكًا في صحتها. تحقيق صحفي حديث حول مذكرات الكاتبة راينور وين “طريق الملح” سلط الضوء مجددًا على تلك المنطقة الرمادية بين الحقيقة والتأثير، بين الوقائع والنية، وبين “الصدق” و”صدق المشاعر” أو ما يسميه الإعلام الأمريكي “Truthiness”.

 

من التشرد إلى الشاشة الكبيرة.. ثم إلى قفص الاتهام

مذكرات “طريق الملح” التي تحوّلت إلى فيلم من بطولة جيليان أندرسون وجيسون آيزاكس، تحكي عن زوجين بريطانيين فقدا منزلهما وقررا خوض مغامرة على الأقدام بطول 630 ميلاً على سواحل كورنوال وديفون، في مواجهة الطبيعة والمرض والخذلان. القصة بدت مثالية: التغلب على المحنة بالروح والرفقة والطبيعة. لكن صحيفة “الأوبزرفر” كشفت أن الكاتبة، المعروفة باسم راينور وين، ليست سوى “سالي ووكر” التي يُزعم أنها اختلست أموالًا من صاحب عملها، وأن مرض زوجها قد لا يكون حقيقيًا كما صُوّر.

 

حين تصبح الرواية أهم من الحقيقة

الكاتبة أنكرت الاتهامات وقالت إنها “مشوهة وغير عادلة”، لكن القضية كشفت عن أزمة أعمق تتجاوز مجال النشر: لماذا يُقبل الناس على تصديق قصص مثالية دون التحقق منها؟ ولماذا حين تنكشف الزيف، لا يتوقف كثيرون عن الإيمان بها؟ الإجابة تكمن في ما وصفه الكوميدي الأمريكي ستيفن كولبير بـ”الصدق العاطفي”، حيث لا تهم الحقيقة بقدر ما يهم أن تبدو القصة ممكنة ومؤثرة ومُرضية نفسيًا.

 

رواية الذات في عصر الشركات: الأكاذيب التي نكافئها

ثقافة “سرد القصة” أصبحت أحد أركان التسويق المعاصر، لا سيما في عالم الأعمال وريادة المشاريع. وكلما بدت قصة البداية متواضعة، بدت النهاية أكثر إلهامًا. كثير من المسؤولين التنفيذيين ورجال السياسة يستخدمون “حكاية” لتبرير مكانتهم، حتى لو كانت الحكاية مبالغًا فيها أو منتزعة من سياقها. كيمي بادينوك، زعيمة حزب المحافظين البريطاني، قالت إن عملها في ماكدونالدز لثلاثة أشهر جعلها “من الطبقة العاملة”! حتى الشركات الناشئة تتبنى عقلية “تظاهر حتى تنجح”، كما في حالة إليزابيث هولمز و”ثيرانوس”.

 

الذكاء الاصطناعي.. حكايات حزينة بلا وجود

في تناقض محير، صار بإمكان أي شخص اليوم فضح الكذب عبر الإنترنت، ومع ذلك ارتفعت شهية الجمهور للقصص المزيفة. كاتبة المقال تشير إلى حساب على إنستغرام يعرض قصصًا مفجعة عن فقد عائلات بأكملها، ويظهر فيها أشخاص جذابون يروون تلك المآسي… ثم يتضح أنهم شخصيات مولّدة بالذكاء الاصطناعي. بعض المتابعين صُدموا، لكن كثيرين تفاعلوا بإيجابية، لا لأنهم خُدعوا، بل لأنهم أرادوا أن يصدقوا.

 

الجمهور كقاضٍ عشوائي.. من يُحاسَب ومن يُترك؟

ليس واضحًا لماذا تحظى بعض القصص بتدقيق فجائي، بينما تفلت أخرى من المحاسبة. بعض الكتب تمتلئ بالمبالغات والتناقضات دون أن يثير أحدها أي ضجة. لكن بمجرد أن تنكشف خيوط الخداع، فإنها قد تصبح اللعنة التي تلازم صاحبها إلى الأبد. فرانك أباغنيل، صاحب قصة “Catch Me If You Can”، رغم سنوات من العمل مع السلطات لمكافحة الاحتيال، ما زال البعض ينظر إليه كـ”محتال سابق”، ويصف الشهرة الناتجة عن الفضيحة بأنها “أسوأ لعنة يمكن أن تصيب شخصًا”.

 

من “القصص الحقيقية” إلى “الحقيقة القصصية”

أصبح من الصعب اليوم التمييز بين القصة الملهمة والحقيقة القابلة للتحقق. وبينما يواصل كثيرون السعي خلف الروايات التي “تبدو” حقيقية، يتآكل الفارق بين السرد والواقع. في النهاية، القصة الجيدة تُكافأ، سواء كانت صادقة أو لا، طالما لامست العاطفة وتركت أثرًا. إنها مرحلة ما بعد الحقيقة، حيث يكون “المعنى” أهم من “الصدق”، و”الشعور” أقوى من “الواقع”.

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى