نساء ألمانيا الشرقية: من التهميش إلى التأثير في المشهد الثقافي
تحويل التهميش إلى قوة: نساء ألمانيا الشرقية يقودن التغيير الثقافي

بعد مرور 35 عامًا على إعادة توحيد ألمانيا، لا تزال النساء المولودات في ألمانيا الشرقية يواجهن تبعات العيش بين عالمين: الاشتراكية السابقة والرأسمالية الغربية. لكن هذه “الهوية المزدوجة” لم تعد مجرد عبء، بل تحولت إلى عدسة نقدية ثاقبة تفتح نوافذ جديدة في الفن والسياسة. في هذا السياق، تبرز تجربتا كاثلين راينهارت ولين روتر كنموذجين لنساء حوّلن التهميش والتمييز إلى أدوات قوة وتغيير، وهن الآن يرسمن مسارات بديلة للفهم والتأثير داخل المؤسسات الفنية العالمية.
من التنمر في الفصل الدراسي إلى أروقة بينالي البندقية
في عام 1990، انتقلت كاثلين راينهارت من تورينغن في ألمانيا الشرقية إلى بافاريا الغربية مع عائلتها، بعد انهيار الجدار. طفلة في المدرسة الابتدائية آنذاك، قوبلت بكلمات مهينة مثل: “أنتم تأتون لتأخذوا وظائفنا ولا تعرفون حتى كيف تعملون!”. هذه التجربة شكلت وعيها المبكر بالإقصاء الطبقي والجغرافي.
اليوم، تُعد راينهارت أول امرأة من خلفية شرقية تتولى الإشراف على الجناح الألماني في بينالي البندقية لعام 2026، أحد أرقى المحافل الفنية العالمية. هذا التعيين لا يحمل فقط قيمة رمزية، بل يعكس تحوّلًا عميقًا في فهم من يملك الحق في تمثيل الهوية الثقافية الألمانية على المسرح العالمي.
نقد المؤسسات من الداخل: كيف تعيد راينهارت تشكيل المتاحف الألمانية؟
تسلمت راينهارت إدارة متحف جورج كولبه في برلين عام 2022، وهو متحف صغير نسبيًا يقع في حي هادئ من برلين الغربية، وكان يعرف بطابعه المحافظ. تحت إدارتها، تحول المتحف إلى مساحة نقدية تفتح ملفات الذاكرة الألمانية المُهملة، وتطرح أسئلة مزعجة حول الاستعمار والعنصرية والبنية الطبقية داخل الفن.
في أولى جولاتها في حديقة المتحف
توقفت راينهارت أمام “نافورة الراقصة”، منحوتة جميلة يعود أصلها إلى جامع يهودي قُتل لاحقًا في معسكر تيريزينشتات. لاحظت أن القاعدة ترتكز على أجساد ذكور سوداء مُجردة – رمز عنيف للاستعمار. بدلاً من تجاهل ذلك، بدأت بحثًا دقيقًا في خلفية العمل، متتبعة تاريخه ومصدره، لتصبح أول مديرة في تاريخ المتحف تفتح هذا الملف الشائك.
لين روتر: تعقّب تاريخ المسروقات الفنية… والنساء المحذوفات من التاريخ
بدورها، تواصل لين روتر، المولودة في مدينة صغيرة في ألمانيا الشرقية، عملها الطلائعي كأول “قيّمة على الملكية الفنية” في متحف الفن الحديث بنيويورك، حيث تعمل على كشف العلاقات المظلمة بين الفن والحرب والسرقة والتمييز.
تقود روتر اليوم مشروعين رقميين ضخمين يمولان من الاتحاد الأوروبي
يستخدمان البيانات لفهم أنماط الاستيلاء على الأعمال الفنية في زمن الحرب. اكتشف فريقها، مثلًا، أن النساء المالكِات غالبًا ما كن يُمحَين من السجلات، وتُسجّل الملكية بأسماء أزواجهن. تقول روتر: “هذا ليس خطأً كتابيًا، بل نتيجة بنية ذكورية ممنهجة داخل سوق الفن والمؤسسات المتحفية”.
الشرق الألماني ليس هامشًا.. بل مرآة نقدية للهوية الألمانية
ترفض راينهارت وروتر النظرة النمطية للشرق الألماني كـ”حالة خاصة” أو “هامش تاريخي”، بل ترونه كمنظور مختلف يتيح مساءلة السرديات الكبرى في تاريخ ألمانيا وتكوينها الاجتماعي. راينهارت تفضل التعامل مع “الشرخ” بدلاً من “الاكتمال”، ومع “التوتر” بدلًا من “الانسجام”، سواء في المعارض الفنية أو في نقاشات الهوية.
أما روتر، فتعتبر أن “الملصقات مهمة على اللوحات، لكنها لا يجب أن تُحدد مصائر البشر”. هي ترفض التصنيفات الثنائية وتدعو إلى مقاربة غير تبسيطية للتاريخ، حيث تُروى القصة من أطرافها، لا من مركزها.
من التهميش المؤسسي إلى قيادة التغيير الثقافي
لسنوات، كانت النساء من ألمانيا الشرقية يُنظر إليهن نظرة دونية داخل المؤسسات الغربية. حتى أنجيلا ميركل، رغم أنها أول مستشارة ألمانية، وُصفت بدايةً بـ”الفتاة الصامتة”، ثم بـ”موتي” (ماما)، وهو لقب ذو دلالات أبوية تقزيمية. لكن مع مرور الوقت، استطاعت نساء مثل راينهارت وروتر كسر هذا القالب، ليس عبر الصدام فقط، بل من خلال أداء نوعي في مجالات مركبة، تُعيد فيها كتابة قواعد اللعبة.
النساء من الشرق: ذاكرة معقدة ونقد لا يلين
لا تسعى راينهارت وروتر إلى تمجيد الماضي الاشتراكي، ولا إلى اجترار الحنين إلى زمن جدار برلين، بل إلى تقديم قراءة مركبة للذاكرة والسلطة والمعرفة. في مكتب راينهارت، تبرز لافتة كتب عليها: “لا داعي لهدم التماثيل… فقط أزيلوا قواعدها”. هذا الشعار يلخص فلسفتها: ليس المطلوب تدمير الرموز، بل إعادة النظر في ما يجعلها “رموزًا”.
خلاصة: هوامش الأمس تقود حوار المستقبل
تُظهر قصة هاتين المرأتين أن الهامش يمكن أن يكون مركزًا بديلاً، وأن التهميش قد يكون بوابة لفهم أشمل وأكثر نقدًا للهوية، ولتاريخ أوروبا الحديث. في زمن تتصاعد فيه النزعات القومية والشعبوية، تحتاج المؤسسات الثقافية إلى من يتقن العبور بين العوالم، ويملك الجرأة على مساءلة المركز من الداخل. نساء ألمانيا الشرقية – مثل راينهارت وروتر – يفعلن ذلك بإصرار، ويفتحن الطريق لقراءات أعمق، وحوارات أجرأ.