الوكالات

هل يمكن للاقتصاد الأمريكي أن يستمر في تحدي التوقعات؟

القلق بين مراقبين اقتصاديين أمريكان بعد الرئاسة الثانية لترامب

في ظل رئاسة دونالد ترامب الثانية، التي جاءت على خلفية وعود بإعادة تشكيل الاقتصاد الأمريكي عبر سياسات جذرية، كان من الطبيعي أن تسود أجواء من القلق بين المراقبين الاقتصاديين. ومع إطلاق حزمة من الإجراءات المثيرة للجدل، من ترحيل آلاف المهاجرين إلى فرض تعريفات جمركية واسعة وإضعاف مؤسسات الدولة الفيدرالية، بدا أن الاقتصاد الأمريكي يتجه إلى اضطراب شديد. إلا أن الواقع على الأرض خالف معظم التوقعات. فمؤشرات الاقتصاد الكلي، رغم بعض الهزات، ظلت صامدة على نحو مفاجئ: التضخم تحت السيطرة، أسواق الأسهم متعافية، والبطالة في مستويات منخفضة تاريخياً.

لكن هذا الأداء اللافت يثير تساؤلات حادة:

هل نحن أمام مرحلة من “الاستقرار الزائف”؟ أم أن الاقتصاد الأمريكي بات يمتلك قدرة جديدة على امتصاص الصدمات؟ ومتى تظهر آثار السياسات المثيرة للجدل التي تبناها ترامب؟ في هذا التقرير التحليلي، نرصد العوامل التي تقف خلف صمود الاقتصاد الأمريكي حتى الآن، ونتناول أبرز التحديات الكامنة تحت هذا السطح المطمئن.

سوق العمل الأمريكي: متانة رغم الاضطرابات.

رغم الهواجس التي أثارتها سياسات ترامب بشأن ترحيل المهاجرين وتقييد سوق العمل، فإن أرقام التوظيف بقيت صلبة. فقد أُضيف نحو 800 ألف وظيفة في النصف الأول من العام، متجاوزة التوقعات لأربعة أشهر متتالية. واستقر معدل البطالة عند 4.1%، وهو ما يُعد “توظيفاً كاملاً” في معايير الاحتياطي الفيدرالي. ومع أن النمو جاء جزئياً من التوظيف الحكومي، خصوصاً في القطاع التعليمي، إلا أن وتيرة التوظيف في القطاع الخاص لم تنهَر كما كان متوقعاً. وتشير هذه البيانات إلى أن سوق العمل لا تزال قادرة على التكيف رغم الصدمات السياسية والتجارية، وإن كان ذلك مؤقتاً.

التضخم: استقرار مشوب بالحذر

رغم مخاوف من أن تؤدي التعريفات الجمركية إلى موجة تضخمية، ظل التضخم محدوداً نسبياً. فقد بلغ مؤشر أسعار المستهلك 2.7% في يونيو، وهي نسبة أعلى قليلاً من مستهدف الفيدرالي، لكنها أقل بكثير من ذروة تجاوزت 9% عام 2022. ويعزو الخبراء هذا الاستقرار إلى أن المنتجين الأجانب، بدلاً من المستهلك الأمريكي، هم من يتحملون عبء التعريفات. لكن مؤشرات يونيو أظهرت أولى علامات تمرير التكاليف للمستهلكين، لا سيما في الأجهزة المنزلية والملابس. ويخشى البعض أن يكون هذا الهدوء مجرد مقدمة لمرحلة تضخمية متأخرة.

أداء الشركات الكبرى: أرباح تفوق التوقعات

من أبرز المفاجآت في المشهد الاقتصادي الأمريكي أن قطاع الشركات الكبرى تجاوز توقعات المحللين. فقد أعلنت 80% من شركات مؤشر S&P 500 التي قدمت تقارير أرباحها للربع الثاني عن نتائج أفضل من المتوقع. ويعكس ذلك قدرة قطاع الأعمال على التكيف، لكن بعض المحللين يرون أن هذا الأداء قد لا يستمر، لا سيما إذا بدأت الشركات في تحمل التكاليف الكاملة للتعريفات أو إذا تراجعت القدرة الشرائية للمستهلكين لاحقاً. كما أن أداء الأسواق المالية، رغم التعافي، يظل هشاً أمام أي تحول في السياسات النقدية أو التجارية.

التجارة والتعريفات: سلاح مزدوج التأثير

تبنّت إدارة ترامب نهجاً تصادميًا في ملف التجارة، مستخدمة التعريفات كوسيلة ضغط لإعادة التفاوض على الصفقات. وبينما يُصر الرئيس على أن هذه السياسات تدعم الاقتصاد وتُضعف المنافسين، يشكك خبراء في مدى استدامتها. فالغموض في معدلات التعريفة وتذبذب القرارات خلّف ارتباكاً لدى المستثمرين، وبدأت آثاره تظهر في أسعار بعض السلع المستوردة. كما أن “حرب التعريفات” تُعرض سلاسل الإمداد العالمية لضغوط متزايدة، وقد تُضعف قدرة الشركات على الحفاظ على مستويات الأسعار دون تمرير التكاليف إلى المستهلك الأمريكي.

ضغوط البيت الأبيض على الاحتياطي الفيدرالي

من المشاهد غير المألوفة في الأشهر الأخيرة، زيارة ترامب شخصياً لمقر الاحتياطي الفيدرالي، في محاولة منه للضغط على رئيسه جيروم باول لخفض أسعار الفائدة. هذا التدخل المباشر يُعد سابقة منذ عهد جورج بوش الابن. ويرى ترامب أن خفض الفائدة هو السبيل لـ”تحرير النمو” وتخفيف أعباء خدمة الدين الحكومي. لكن مسؤولي الفيدرالي لا يزالون مترددين، إذ ينتظرون بيانات إضافية لتقييم ما إذا كانت التعريفات ستخلق ضغوطاً تضخمية دائمة. ومع استمرار تماسك المؤشرات، من المرجح أن يتم تأجيل أي خفض للفائدة حتى الخريف المقبل على الأقل.

توقعات النمو:والتفاؤل مشوب بالتحفظ

تشير توقعات الاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا إلى نمو بنسبة 2.4% في الربع الثاني، وهي نسبة قوية نسبياً في ظل التحديات. لكن بعض المؤسسات المالية، مثل “غولدمان ساكس”، بدأت بخفض توقعاتها لنمو عام 2025 إلى 1.1% فقط. وهذا التراجع يعكس قلقاً من التأثير المتأخر للسياسات الحالية، سواء تلك المتعلقة بالتجارة أو الهجرة أو الإنفاق العام. ويؤكد محللو معهد بيترسون أن “الصلابة الظاهرة قد تُخفي نقاط ضعف هيكلية ستظهر تدريجياً في الفصول المقبلة”.

الاقتصاد مقابل السياسة: جدل النماذج والتوقعات

يثير صمود الاقتصاد الأمريكي جدلاً متجددًا حول النماذج الاقتصادية التقليدية التي بُنيت على فرضيات حرية الأسواق وعدم التدخل. يرى بعض المفكرين المحافظين، مثل أورن كاس، أن الوقت حان لإعادة تقييم هذه النماذج، إذ أثبتت التجربة أن بعض التدخلات – كالتعريفات – لا تؤدي دائمًا إلى نتائج كارثية كما كان يُعتقد. من جهة أخرى، يرى آخرون أن التأخر في ظهور الأثر لا يعني غيابه، بل هو مسألة توقيت فقط. وفي هذا السياق، يبرز سؤال كبير: هل نحن أمام نموذج اقتصادي جديد، أم مجرد استثناء مؤقت في دورة طويلة الأمد؟

مؤشرات الإنذار: بوادر ضعف في الأفق

رغم الصورة المطمئنة نسبيًا، تظهر مؤشرات مقلقة على الهامش. فقد تباطأ التوظيف في القطاع الخاص، وسجل سوق العقارات تباطؤًا حادًا في يونيو، مع انخفاض مبيعات المنازل إلى أدنى مستوى خلال تسعة أشهر. كما بدأت أسعار بعض السلع المستوردة في الارتفاع، ما قد يُنذر بموجة تضخم مؤجلة. وهناك مخاوف من أن تؤدي حملة الترحيل وتقليص العقود الحكومية .

اقرأ أيضاً:

وزير الخارجية يبحث مع نظيرته الألمانية سبل تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري

 

يارا حمادة

يارا حمادة صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى