الاقتصاد

بين التوبه والضرائب: كيف اصبحت خطايا المواطن دخلا للدولة ؟

أوروبا والاعتماد على "ضرائب الخطايا"

رغم أن أوروبا اليوم تبدو قارة علمانية إلى حد كبير، فإن شعور الذنب ما زال حاضرًا – وإن كان في صور جديدة لا علاقة لها بالإيمان. الخطايا التي يعاقب عليها اليوم ليست الزنا أو الكفر، بل تدخين السجائر، شرب الكحول، قيادة السيارات الملوثة للبيئة، وحتى تناول اللحوم أو المشروبات المحلاة. هذه العادات باتت تُعامل كذنوب اقتصادية، تتكفل الحكومات بفرض ضرائب باهظة عليها تحت شعار الصحة العامة أو حماية البيئة، لكنها في الواقع باتت عمادًا ماليًا لا غنى عنه للعديد من خزائن دول الرفاه الأوروبية.

في قلب هذه المعادلة يوجد السؤال الملح: ماذا لو أقلع الأوروبيون فعلًا عن هذه العادات؟ ماذا سيحدث حين يجف نبع “الخطايا الضريبية” الذي يغذي ميزانيات الصحة والتعليم والبنى التحتية؟ وإذا كانت هذه الضرائب تحقق أهدافها التوعوية، فهي بذلك تُضعف الموارد التي تعتمد عليها الحكومات لتحقيق العدالة الاجتماعية ذاتها التي تروج لها. هذه المفارقة – بين الأخلاق والسياسة المالية – تكشف عن أزمة أعمق في صميم نماذج الرفاه المعاصرة.

ضريبة الخطايا: حجر الزاوية في اقتصاد الرعاية الاجتماعية

في بلدان مثل السويد، لا يُكتفى بفرض ضرائب عالية على الكحول، بل تدار مبيعاته عبر احتكار حكومي صارم يُدعى “Systembolaget”، لا يخفي اشمئزازه من الفكرة ذاتها. الزبائن لا يُغَرّون بعروض أو إعلانات، بل يُحاصَرون برسائل توبة، ويُدفعون للاكتفاء بالقليل. هذا النموذج، رغم طابعه الأبوي، يغذي خزينة الدولة بمليارات اليوروهات سنويًا، وهو مثال حي على كيف أصبحت “الخطايا” موردًا ضريبيًا محوريًا في أوروبا.

 

بين الردع والإيرادات: معادلة مستحيلة؟

المفارقة الكبرى أن نجاح هذه الضرائب في تغيير السلوك يُهدد الإيرادات التي تقوم عليها. فكل سيجارة لا تُشترى وكل كوب خمر يُرفض هو خسارة مالية محتملة للحكومة. وفي السنوات الأخيرة، سجّلت أوروبا انخفاضًا ملحوظًا في معدلات التدخين والشرب، لا سيما بين الشباب. هذا الاتجاه قد يُفسّر بأنه انتصار للصحة العامة، لكنه أيضًا ناقوس خطر لوزارات المالية.

 

ضرائب خضراء وأثرها على مستقبل التمويل العام

 

التحولات البيئية لا تقل تأثيرًا. مع تعهد الاتحاد الأوروبي بحظر سيارات البنزين والديزل بحلول 2035 والوصول إلى صافي انبعاثات صفرية في 2050، فإن الإيرادات من ضرائب الوقود مرشحة للهبوط الحاد. هذه التغيرات، رغم أهميتها المناخية، تُشكل ضغطًا ماليًا هائلًا، ويُتوقع أن تُحدث فجوات في ميزانيات تعتمد على هذه الموارد بشكل مزمن.

 

العدالة الاجتماعية تحت رحمة ضرائب “غير عادلة”

 

رغم النوايا الحسنة، فإن هذه الضرائب غالبًا ما تُثقل كاهل الفقراء أكثر من الأغنياء. من يدخنون ويشربون ويقودون سيارات قديمة هم في الغالب من الطبقات الدنيا، ما يجعل هذه الضرائب ذات طابع رجعي وغير عادل اجتماعيًا. علاوة على ذلك، فإن سهولة التنقل داخل الاتحاد الأوروبي تجعل من السهل التحايل على هذه الأنظمة بشراء السلع من دول ذات ضرائب أقل.

 

التمرد الشعبي: عندما يتحول الوقود إلى وقود للغضب

عندما ترتفع أسعار البنزين بشكل مفرط، فإن الغضب الشعبي لا يتأخر. مظاهرات “السترات الصفراء” في فرنسا عام 2018 كانت نتيجة مباشرة لمحاولة الحكومة رفع الضرائب البيئية. مثل هذه الأزمات تذكّر صناع القرار بأن الضرائب ليست مجرد أدوات اقتصادية، بل تمس شرعية الدولة الاجتماعية.

 

البحث عن خطايا جديدة: هل اللحوم هي التالية؟

مع تقلص إيرادات الخطايا التقليدية، تتجه الأنظار إلى ميادين جديدة: اللحوم الحمراء بسبب انبعاثاتها، البلاستيك غير المُعاد تدويره، وحتى السجائر الإلكترونية. المفوضية الأوروبية تدرس فرض ضرائب على كل ذلك، بل وتُخطط للحصول على حصة مباشرة منها لتمويل ميزانيتها الخاصة، مما يُثير أسئلة حول مركزية هذه “الخطايا” في هندسة السياسة الأوروبية.

 

إدمان الحكومات على الضرائب: هل هناك مخرج؟

ما بدأ كسياسات توجيهية لسلوك الأفراد أصبح إدمانًا ماليًا للدول. فبدلًا من البحث عن نماذج تمويل أكثر استدامة وعدالة، أصبحت الحكومات الأوروبية تعتمد على استمرار السلوكيات الضارة. وهذا يضعها في موقف متناقض: تُحارب التدخين وتشرب نخب الضرائب عليه. في هذا السياق، ليس مستبعدًا أن تصبح أشياء مثل مشاهدة الفيديوهات بدون سماعات في المواصلات العامة “خطيئة” ضريبية في المستقبل القريب.

 

 أوروبا أمام امتحان أخلاقي واقتصادي مزدوج

إن استمرار الاعتماد على “ضرائب الخطايا” يكشف حدود نموذج الدولة الرفاهية الأوروبية في صورته الحالية. فبينما يُحتفى بتراجع العادات المضرة، يُخشى من تداعياته المالية. والسؤال الذي لا مفر منه: كيف تبني دول الرفاه مستقبلها إذا أقلع مواطنوها عن الخطيئة؟

اقرا ايضا

هجوم مسلح على محكمه في إيران يكشف هشاشة الأمن في جنوب شرق البلاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى