
في وقت تتراجع فيه الحماسة السياسية والإرادة العامة لمكافحة تغير المناخ، يطرح الواقع ضرورة مراجعة الاستراتيجيات القائمة على الأهداف الطموحة والانتقال إلى مقاربات أكثر واقعية ومرونة. ورغم أن العالم يمتلك اليوم قدرة تقنية غير مسبوقة على خفض الانبعاثات، فإن العقبة الأساسية تظل سياسية بالدرجة الأولى. ومع تنامي المعارضة الداخلية في الدول الكبرى، وتصاعد النزعات القومية، وتراجع التأييد الشعبي لمشروعات التحول الأخضر، أصبح من الضروري تبني خطاب مناخي جديد يجمع بين الطموح والواقعية، ويستند إلى مبدأ بسيط: لا سياسة دون قبول شعبي، ولا تقدم دون أمل.
تراجع الالتزام السياسي في أمريكا وأوروبا
في نهاية يوليو 2025، أعلنت وكالة حماية البيئة الأمريكية تخليها عن سلطتها الأساسية في تنظيم انبعاثات الغازات الدفيئة، في خطوة تمثل استمرارًا لسياسات الرئيس دونالد ترامب المناهضة للجهود المناخية. ويأتي هذا التحول ضمن موجة أوسع من التراجع في الالتزام السياسي العالمي بمكافحة تغير المناخ، إذ أدى تركيز الدول الأوروبية على الإنفاق العسكري في أعقاب الحرب الأوكرانية إلى تقليص الميزانيات المخصصة للسياسات البيئية. كما زادت الأصوات المعارضة داخليًا التي ترى أن تكلفة خفض الانبعاثات لا يجب أن تتحملها الفئات المتوسطة والفقيرة وحدها، أو أن العبء يجب أن ينتقل إلى الدول الأخرى.
الدول الفقيرة بين الحاجة للطاقة والرفض للسياسات الغربية
في العالم النامي، تتعالى الأصوات الغاضبة من السياسات المناخية الغربية التي تُفرض دون مراعاة للحاجات المحلية الأساسية للطاقة. كثير من هذه الدول لم تسهم تاريخيًا في الانبعاثات، لكنها تجد نفسها مطالبة بالتضحية بنموها الاقتصادي لصالح أجندة وضعتها دول الشمال. هذا الإحساس بالظلم يقوّض الجهود العالمية ويزيد من صعوبة بناء توافق دولي فعال.
فرص تقنية غير مسبوقة تصطدم بجدار السياسة
رغم هذا الإحباط السياسي، فإن الجانب التقني من معركة المناخ يحمل أنباءً سارة. فقد انخفضت كلفة الطاقة النظيفة بشكل ملحوظ، وازداد الإقبال على تقنيات مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والبطاريات. ما كان قبل عقدين من الزمن حلمًا مكلفًا، أصبح اليوم خيارًا تجاريًا منافسًا. لكن العقبة الكبرى تظل سياسية: الناس لا يؤمنون بأن أهداف “صافي الصفر” تصب في مصلحتهم أو أنها قابلة للتحقيق دون تكاليف باهظة.
أهداف “صافي الصفر”: من الطموح إلى اللاواقعية
من الناحية العلمية، فإن تحقيق صافي انبعاثات صفرية ضرورة منطقية لوقف الاحترار العالمي. لكن سياسيًا، فإن هذه الأهداف تواجه تحديات هائلة. فالتخفيضات المطلوبة في الانبعاثات يجب أن تكون سريعة وعميقة، الأمر الذي يبدو صعب التحقيق في دول لم تبدأ أصلًا في خفض الانبعاثات. وبالنسبة للكثير من الحكومات، فإن هذه الأهداف قد أصبحت عائقًا سياسيًا لا يمكن الدفاع عنه أمام الناخبين.
مراجعة الأهداف دون التخلي عن الطموح
التخلي الكامل عن أهداف صافي الصفر قد يبعث برسائل سلبية ويفتح الباب أمام التخاذل، لذا يقترح كاتب المقال الانتقال إلى مقاربة أكثر مرونة، بحيث تتحول الأهداف من التزامات صارمة إلى خطوط إرشادية مرنة. مثل هذا التحول قد يسمح بإبقاء البوصلة الأخلاقية والبيئية دون صدام مباشر مع الرأي العام.
كندا نموذج للبراغماتية المناخية
في كندا، يُعتبر رئيس الوزراء مارك كارني نموذجًا لسياسي يدرك أهمية الاقتصاد السياسي للمناخ. فبالرغم من اقتناعه الاقتصادي بأهمية تسعير الكربون، سارع إلى تعديل نظام التسعير بما يخفف العبء عن المواطنين. وتفضّل كثير من الحكومات الآن دعم البدائل النظيفة بدلًا من فرض ضرائب مباشرة على الانبعاثات، وهو ما ساهم في خفض كلفة التكنولوجيا الخضراء وجعلها أكثر جاذبية تجاريًا.
تخفيف الأعباء على المواطنين أساس النجاح
لتحقيق التحول الأخضر بنجاح، يجب التركيز على تسهيل التحول بدلًا من فرضه بالقوة. فالدعوة إلى شراء مضخات حرارية أو سيارات كهربائية لا تكون فعالة ما لم تُوفر البنية التحتية المناسبة والدعم الفني والمالي للمواطنين. كما أن القبول الشعبي يرتبط أيضًا بالعدالة: كيف تُطلب من الناس تضحيات في حين لا يتمكنون من تبريد منازلهم في ظل موجات الحر القاتلة؟
ترامب وأمريكا: نموذج لما لا يجب فعله
سياسات ترامب المناهضة للمناخ ستحول أمريكا إلى نموذج تحذيري. فبينما يزداد الطلب على الطاقة بسبب الطفرات التكنولوجية كالذكاء الاصطناعي، سترتفع الأسعار وتضعف القدرة التنافسية للقطاع الأمريكي الأخضر. هذه السياسات لا تُهدد البيئة فحسب، بل تضر بالأمن القومي والاقتصاد طويل الأمد.
بناء سردية جديدة: الأمل بدلًا من الخوف
الناس يفضلون المستقبل النظيف والمزدهر على الكوارث، لكنهم يريدون قصصًا ملهمة يشعرون أنهم جزء منها. لا يكفي التلويح بالتحذيرات، بل يجب تقديم سياسات تجعلهم يشعرون بالتمكين. الحرية من تقلبات أسعار الوقود الأحفوري، والاستقلالية الطاقية، والنمو الأخضر هي عناصر سردية يمكن أن توحد الناس خلف سياسة مناخية واقعية وملهمة.