فرنسا تدق طبول السيادة في المحيطين الهندي والهادئ: ماكرون يطلق استراتيجية واقعية لعالم مضطرب
باريس تعيد رسم نفوذها في الإندوباسيفيك: استراتيجية فرنسية واقعية لعصر التنافس والفوضى

في جولة آسيوية لافتة، شملت فيتنام وإندونيسيا وسنغافورة، كشف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن ملامح استراتيجية جديدة وجريئة لبلاده في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، عنوانها الأبرز: الواقعية الاستراتيجية. وفي ظل تصاعد التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى، تسعى فرنسا لإعادة ترسيخ حضورها كلاعب موثوق ومتعدد الأدوار في منطقة توصف اليوم بأنها “الأكثر تنافسًا والأشد اضطرابًا” في العالم.
تأتي هذه الرؤية الفرنسية المحدّثة امتدادًا لاستراتيجية أولى طُرحت عام 2018، قبل أن يجري توسيعها عام 2022. أما النسخة الجديدة لعام 2025، التي حملت اسم “استراتيجية واقعية لأزمنة مضطربة”، فهي تعكس بوضوح تبدل المزاج الدولي، وتراجع الإيمان بالتعددية، وعودة مفاهيم النفوذ والسيادة كمرتكزات أساسية للعلاقات الدولية. وبينما يتجه العالم نحو نظام متعدد الأقطاب أكثر فوضوية، تحاول باريس تثبيت موطئ قدم دائم لها في هذه المعادلة.
من الطموح إلى الواقعية: تحوّل جوهري في التفكير الاستراتيجي
عندما طرحت فرنسا رؤيتها الأولى للمحيطين الهندي والهادئ في 2019، بدت متفائلة، مستندة إلى خطاب حول التعاون المتعدد الأطراف، واحترام القانون الدولي، والعمل الجماعي. لكنها كانت رؤية أقرب إلى الطوباوية، تجاهلت تعقيدات التنافس الجيوسياسي الحاد، وتمدّد التهديدات الهجينة.
أما اليوم، فقد تبدّلت النبرة كليًا. فاستراتيجية 2025 تُشخّص الوضع كما هو: صعود صيني أكثر جرأة، سباق تسلّح متسارع، وتراجع فاعلية المؤسسات الدولية. الوثيقة الجديدة تتحدث بلهجة حازمة عن الفضاءات المتنازع عليها، وتشير إلى تايوان وبحر الصين الجنوبي كأمثلة حيّة على هشاشة الاستقرار. إنها نقلة من التمنّي إلى التحصّن، ومن الترويج إلى التأهب.
المناطق الفرنسية ما وراء البحار: من الهامش إلى محور العمليات
لطالما اعتبرت باريس أن أراضيها السبعة في المحيطين الهندي والهادئ – مثل لا ريونيون، وكاليدونيا الجديدة، وبولينيزيا الفرنسية – دليلًا رمزيًا على انتمائها للمنطقة. لكن هذه النظرة تغيّرت الآن.
ففي إطار قانون البرمجة العسكرية 2024–2030، خصصت الحكومة الفرنسية مبلغًا ضخمًا يقدّر بـ13 مليار يورو لتعزيز البنية العسكرية لتلك المناطق، من خلال تزويدها بسفن دورية، وفرقاطات خفيفة، ومروحيات، وبنى تحتية إلكترونية للحرب السيبرانية.
ولم تعد هذه الاستثمارات تُعنى فقط بالتهديدات التقليدية، بل تشمل أيضًا مواجهة التضليل الإعلامي، وتغير المناخ، والتهميش الاقتصادي، ما يشير إلى انتقال حقيقي نحو مفهوم الأمن الشامل.
شراكات السيادة: تحالفات مرنة لمواجهة الإكراه الاستراتيجي
ترتكز الاستراتيجية الفرنسية أيضًا على بناء ما تسميه “شراكات السيادة” مع الدول ذات التوجهات المستقلة في المنطقة، وذلك لتقوية القدرة الجماعية على الصمود.
لا تقتصر هذه الشراكات على التعاون العسكري أو البحري، بل تشمل أيضًا الطاقة، والمعادن النادرة، والأمن السيبراني، والدبلوماسية الصحية، وحوكمة الفضاء الرقمي. الهدف هنا ليس مجرد توسيع شبكة التحالفات، بل تقديم نموذج تعاون مرن وفعال، يلقى قبولًا من الدول الصغيرة والمتوسطة التي تسعى للهروب من استقطاب القوى الكبرى.
التعددية الإقليمية والمرونة في الدبلوماسية
رغم الاعتراف بتراجع فاعلية المنصات متعددة الأطراف، لا تزال فرنسا تؤكد تمسكها بدور “آسيان” كمحور إقليمي، وتتمسك باتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار كمرجعية قانونية.
لكنها في الوقت ذاته تتبنى نهجًا عمليًا من خلال “المنصات المصغرة”، مثل الحوارات الثلاثية مع الهند وأستراليا، أو مع الهند والإمارات، والتي تتيح تعاونًا مركّزًا في مجالات بحرية وأمنية واقتصادية.
كما تسعى فرنسا لتوسيع نفوذها عبر منظمات إقليمية مثل منتدى جزر المحيط الهادئ ورابطة حافة المحيط الهندي، ما يضمن لها تنوعًا في أدوات التأثير.
باريس كقلب النبض الأوروبي في الإندوباسيفيك
لا تنفصل الرؤية الفرنسية عن الدور الأوروبي، بل على العكس، تسعى باريس لتكون رأس الحربة في تنفيذ استراتيجية الاتحاد الأوروبي في الإندوباسيفيك.
فهي تقود مبادرات مثل CRIMARIO II لمراقبة البحار، وتشارك في عمليات بحرية أوروبية مثل ATLANTA وASPIDES، وتسعى لرفع مستوى “منتدى وزراء الإندوباسيفيك الأوروبي” إلى قمة دورية.
هذه التحركات تؤكد رغبة فرنسا في ترسيخ رؤية أوروبية ثالثة، بعيدة عن ثنائية الهيمنة الأمريكية–الصينية، تقوم على القانون الدولي، والسيادة، والشراكات متعددة الأطراف.
تهديدات هجينة وتقاطعات أمنية جديدة
أحد أبرز عناصر استراتيجية 2025 هو إدراكها لطبيعة التهديدات المتغيرة، من التدخلات السيبرانية إلى التضليل الإعلامي، و”الربط الأمني” بين الأزمات العالمية.
ففرنسا ترى أن ما يحدث في أوكرانيا له تداعيات مباشرة على أمن المحيطين، وتحديدًا في ظل تقارب صيني–روسي متزايد. كما تتهم دولًا مثل أذربيجان بالتدخل في شؤون أقاليمها البعيدة، ما يحتم تعزيز أدوات الردع والدفاع الرقمي.
موقف أكثر صرامة تجاه الصين: دون صدام مباشر
تتسم المقاربة الفرنسية تجاه الصين في الاستراتيجية الجديدة بدرجة أعلى من الوضوح. فالعلاقة باتت تُفهم ضمن ثلاثية: شريك – منافس – خصم نظامي. وهذا التصنيف يضع فرنسا في موقع مستقل، يرفض التبعية لكنه يتجنب الصدام.
وتوضح الوثيقة رفض باريس لأي تغيير أحادي للوضع القائم في مضائق تايوان أو بحر الصين الجنوبي، مع الإشارة إلى القلق من دعم بكين لموسكو. ومع ذلك، تسعى فرنسا إلى “الانخراط المبدئي” مع الصين، بعيدًا عن العداء العقيم أو التبعية الاقتصادية.
اقرأ أيضاً
الاعتراف بفلسطين: خطوة رمزية من بريطانيا وفرنسا قد تُضعف فرص السلام بدلًا من تعزيزها
خاتمة: واقعية وسط العواصف
تكشف استراتيجية فرنسا للمحيطين الهندي والهادئ لعام 2025 عن تحوّل عميق في إدراك التحديات والفرص. فباريس لم تعد تكتفي برفع الشعارات، بل تمضي نحو أفعال ملموسة: تعزيز للأقاليم، شراكات متنوعة، دبلوماسية مرنة، ودور أوروبي متقدم.
إنها ليست خطة طموحة على الورق، بل خريطة طريق لدور فرنسي نشط، واقعي، وذو صلة إقليمية في عالم يسير نحو مزيد من التنافس والفوضى.