ترامب يصدر نموذجه الاستبدادي الي البرازيل: عندما تصبح السياسه الخارجيه أداة انتقام شخصي
"الاستبداد الأمريكي: عندما تصبح السياسة الخارجية أداة انتقام شخصي"

في مشهد يعيد للأذهان زمن الديكتاتوريات الصغيرة التي كانت تتحكم في مصير شعوب بأكملها من وراء المكاتب الرئاسية، يبدو أن دونالد ترامب لم يكتفِ بتقويض المؤسسات الديمقراطية في بلاده، بل مدّ يده إلى أمريكا اللاتينية، ليبدأ فصلاً جديدًا من التدخل الوقح – هذه المرة في البرازيل، ثاني أكبر ديمقراطية في نصف الكرة الغربي.
من واشنطن إلى ريو: تصدير أزمة الداخل الأمريكي إلى الخارج
ما بدأ كقضية داخلية أمريكية حول “زيف” نتائج انتخابات 2020، تحول الآن إلى سياسة خارجية عدوانية يُعاد فيها تدوير نفس السردية، لكن بأسماء وعواصم جديدة. فمنذ مطلع يوليو، أعلن ترامب حملة عقابية صريحة ضد البرازيل، بفرض رسوم جمركية تصل إلى 50% على وارداتها، وفرض عقوبات مباشرة على قاضٍ في المحكمة العليا البرازيلية، وهو إجراء غير مسبوق في العلاقات بين البلدين.
السبب المعلن؟ محاكمة حليفه السياسي الأبرز في القارة، الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، بتهمة تدبير محاولة انقلاب فاشلة لمنع تنصيب الفائز الحقيقي في انتخابات 2022، لويز إيناسيو لولا دا سيلفا.
“في السابق كانوا يرسلون المارينز، الآن يفرضون التعريفات”
بهذه الكلمات وصف روبنز ريكوبيرو، وزير المالية البرازيلي الأسبق، المشهد الجديد من التدخل الأمريكي الذي لا يستخدم الدبابات، بل أدوات الاقتصاد كسلاح. وهو توصيف يُظهر كيف أن ترامب لا يعيد فقط إحياء أدوات الهيمنة القديمة، بل يطوّعها لخدمة نزعاته الشخصية.
اللافت أن الهجوم الأمريكي جاء في وقت بدأت فيه المحكمة العليا البرازيلية العد التنازلي لإصدار حكمها على بولسونارو، ما اعتُبر ضغطًا سياديًا فجًا من البيت الأبيض للتأثير على القضاء المستقل في دولة أخرى.
بين بولسونارو وترامب: تحالف المستبدين
بالنسبة للكثيرين في البرازيل، فإن ما يفعله ترامب ليس دفاعًا عن الديمقراطية أو الاقتصاد، بل هو مجرد محاولة لحماية زميله في “نادي الرجعية العالمية” من السقوط القانوني والسياسي.
الكاتب البرازيلي مارسيلو روبنز بايفا، الذي قُتل والده تحت التعذيب خلال ديكتاتورية 1964-1985، وصف التدخل الأمريكي بأنه “غير قابل للوصف”، وقال إن ترامب “يرى نفسه نابليون زمانه، ويريد من العالم أن يركع له”.
هذا التشبيه ليس مبالغة، فبحسب ستيفن ليفيتسكي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد ومؤلف كتاب كيف تموت الديمقراطيات، فإن ترامب لا يختلف كثيرًا عن رافائيل تروخيو في الدومينيكان أو أناستاسيو سوموزا في نيكاراغوا: “الرئاسة عنده وسيلة شخصية، والخزانة العامة أداة خاصة، والسياسة الخارجية امتداد لخياراته الانتقامية. لا توجد استراتيجية اقتصادية ولا أجندة دبلوماسية، فقط نزعة انتقامية لصالح الأصدقاء”.
من واشنطن إلى بوينس آيرس: محاولة لصناعة محور يميني جديد
بعض المراقبين يرون أن هجوم ترامب على البرازيل يتجاوز بولسونارو، ويهدف إلى توسيع “محور اليمين الترامبي” في أمريكا اللاتينية، الذي تقوده حاليًا شخصيات مثل خافيير ميلي في الأرجنتين ونايب بوكيلي في السلفادور. هذه محاولة لإعادة تموضع النفوذ الأمريكي المحافظ بعد سنوات من الصعود اليساري في القارة.
آخرون يعتقدون أن ترامب يستخدم قضية بولسونارو كغطاء لحماية مصالح شركات التكنولوجيا الأمريكية، التي تسعى للإفلات من الرقابة والضرائب في سوق الإنترنت البرازيلية، الخامسة عالميًا.
بين المصالح والنزوات: تسييس العدالة بالقوة الناعمة والخشنة
في نظر ترامب، ما يحدث لبولسونارو اليوم هو تكرار لما جرى له بعد خسارته انتخابات 2020، حينما واجه محاولات عزل وقضايا جنائية وصفها بـ”حملة مطاردة ساحرات”. وها هو يُقنع نفسه – أو يتم إقناعه من قبل أبناء بولسونارو – بأن الرئيس البرازيلي السابق ضحية لذات المؤامرة، ما يدفعه لاستخدام الخزانة الأمريكية كعصا اقتصادية لترهيب القضاء البرازيلي.
لكن ليفيتسكي يصف ذلك ببساطة شديدة: “إنه استغلال فج للسيادة الأمريكية لخدمة رغبات شخصية بائسة”.
بولسونارو يخسر… ولولا يخرج أقوى
رغم كل ما فعله ترامب، تشير المؤشرات إلى أن بولسونارو لن ينجو. فالرجل ممنوع من الترشح حتى عام 2030، وهناك توقعات قوية بأن يصدر في حقه حكم بالسجن في غضون أسابيع. أما هو، فحتى وإن نفى التخطيط لانقلاب، فقد اعترف صراحة بأنه فكر في “طرق بديلة” لمنع لولا من تولي المنصب.
في المقابل، يبدو أن الرئيس الحالي لولا دا سيلفا خرج أقوى من هذه المعركة، فالتدخل الأمريكي أعاد إليه جزءًا من الشعبية، وسمح له بتقديم نفسه كمدافع شرس عن سيادة البلاد. الصحافة المحافظة في البرازيل لم تتأخر في الرد؛ إذ نشرت صحيفة إستادو دي ساو باولو افتتاحية قاسية قالت فيها: “اسم بولسونارو أصبح محفورًا في سجل أعظم خونة الأمة”.
أمريكا اللاتينية تقف على الحافة… والديمقراطية تختبر قدرتها على البقاء
هذه ليست مجرد معركة بين ترامب ولولا، ولا بين واشنطن وبرازيليا. بل هي جزء من صراع أكبر على مستقبل الديمقراطية في نصف الكرة الغربي. فبعد عقود من الانقلابات والتدخلات، ظنّ اللاتينيون أنهم تجاوزوا مرحلة التهديد الأمريكي المباشر. لكن ما يفعله ترامب اليوم يعيد فتح جروحًا قديمة، ويبعث برسائل مقلقة بأن البيت الأبيض في عهد ترامب يمكنه أن يتدخل في القضاء، ويعاقب الحكومات، ويختار الفائزين والخاسرين في معارك السيادة.