ترامب يخسر الهند: كيف تُهدد التناقضات الأمريكية موقع واشنطن في جنوب آسيا؟

بينما تسعى الولايات المتحدة لتثبيت دورها كقوة موازنة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، تكشف سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن تناقضات جوهرية تُقوض تحالفاتها الرئيسية، وعلى رأسها الشراكة مع الهند. من مغازلة باكستان على حساب دلهي، إلى فرض رسوم جمركية عقابية على السلع الهندية، تتراكم المؤشرات على انهيار الثقة، وتَحوُّل نيودلهي من حليف استراتيجي محتمل إلى شريك متحفّظ يراقب واشنطن بعين الشك.
مغازلة باكستان على حساب شريك استراتيجي
أحد أبرز مظاهر التناقض في سياسات ترامب تجاه جنوب آسيا تمثّل في استقباله لرئيس أركان الجيش الباكستاني، ودعمه العلني لصفقات إنقاذ اقتصادي لإسلام أباد خلال عملية “سِندور” العسكرية. هذه التحركات أُضيفت إلى سلسلة من المديح الرسمي والتقارب الرمزي مع قادة باكستان، مما عزز من مكانة إسلام أباد الاستراتيجية، وأثار استياءً متزايدًا في الهند التي ترى نفسها شريكًا رئيسيًا في معادلة التوازن الآسيوي.
تصريحات مستفزة وأدوار مُلتبسة
وصف قائد القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM) لباكستان بأنها “شريك رائع في مكافحة الإرهاب” اعتُبر في نيودلهي تجاهلًا صارخًا لسجل إسلام أباد في دعم الجماعات المتطرفة. كما أن مزاعم ترامب المتكررة بأنه “توسط” لوقف إطلاق النار بين الهند وباكستان (رغم النفي الهندي القاطع لأي وساطة خارجية)، تُعدّ إساءة لثوابت الدبلوماسية الهندية القائمة على مبدأ الحوار الثنائي والسيادة الاستراتيجية.
عقوبات جمركية: ضغوط اقتصادية بواجهة عدائية
في 30 يوليو 2025، أعلن ترامب عن فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على الواردات الهندية، مع تهديدات بعقوبات ثانوية بسبب تعاملات دلهي مع روسيا في مجالي الطاقة والدفاع. هذه الإجراءات لم تأتِ في فراغ، بل تزامنت مع إعلان عن صفقة طاقة وتجارية مع باكستان، واستهزاء ساخر من الرئيس الأمريكي بقوله: “من يدري، ربما تبيع باكستان النفط للهند قريبًا!”، في ما فُهم بأنه تصعيد رمزي يُقوّض خيارات الهند السيادية.
فجوة بين القيادة العسكرية والسياسية الأمريكية
الخلل البنيوي في الرؤية الأمريكية للمنطقة يعكس نفسه في التباين بين قيادتي القيادة المركزية (CENTCOM) وقيادة المحيطين الهندي والهادئ (INDOPACOM). فبينما تعتبر الأخيرة الهند حجر الزاوية في التوازن الإقليمي، تستمر الأولى في اعتبار باكستان شريكًا حيويًا في ملفات أفغانستان وإيران. وقد عمّق ترامب هذا الانقسام، متجاهلًا الإنجازات الدبلوماسية السابقة التي أزالت الربط الموروث بين الهند وباكستان في السياسة الأمريكية.
فشل في فهم أولويات الهند
طوال العقدين الماضيين، سعت الولايات المتحدة لتعزيز شراكتها مع الهند عبر احترام خطوطها الحمراء، وتجنّب تناول قضايا مثل كشمير أو فرض رؤى خارجية على سياستها الدفاعية. ترامب نسف هذه القواعد: تباهى بتدخله في ملف كشمير، وأطلق تصريحات غير محسوبة، وفرض ضغوطًا اقتصادية أحادية، متجاهلًا الرصيد السياسي الذي وظفه رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي شخصيًا لبناء علاقة وطيدة مع واشنطن.
التراجع عن القيادة العالمية
سياسات ترامب لا تضر بعلاقات واشنطن الثنائية فحسب، بل تقوّض موقعها العالمي. فقد انسحب من الاتفاقيات المتعددة، شكك في دور الناتو، وهاجم الحلفاء التقليديين مثل كندا وألمانيا واليابان. وفي المقابل، وجد الخصوم مثل الصين وروسيا في هذا الفراغ فرصة لتمديد نفوذهم الاستراتيجي. في الملف الأوكراني، لم يكتفِ ترامب بالتقاعس، بل سخر من الرئيس زيلينسكي، مما قوّى موقف بوتين وأضعف موقف كييف التفاوضي.
آثار ممتدة على الحسابات الإقليمية
في خضم هذه الاضطرابات، باتت عواصم آسيوية مثل طوكيو وكانبيرا أكثر تحفظًا في التزاماتها تجاه واشنطن. الاستطلاعات الأخيرة أظهرت أن الولايات المتحدة بدأت تفقد صورتها كقوة موثوقة. في الهند تحديدًا، بات صانعو القرار أكثر حذرًا، والطبقة السياسية والصحفية أكثر انتقادًا لأي اندفاع نحو شراكات أمنية أو نووية جديدة مع واشنطن.
تناقضات داخلية تُقوض استراتيجية خارجية
الخلل لا يقتصر على السياسة الخارجية، بل ينعكس في رؤى ترامب الاقتصادية كذلك. فبينما يسعى لإعادة التصنيع في أمريكا، يرفض سياسات الهجرة التي توفر اليد العاملة، ويفرض رسومًا ترفع تكاليف الإنتاج. هذا التناقض يُفقد خطابه الاقتصادي مصداقيته، ويُضعف أدواته التفاوضية مع الدول الشريكة. أما الهند، التي تسعى لحماية استقلال قرارها السياسي، فتزداد قناعة بأن الشراكة مع واشنطن يجب أن تبقى مشروطة وحذرة.
خلاصة: هل تخسر أمريكا حليفها الأهم في آسيا؟
تستند الشراكة الهندية الأمريكية إلى أسس استراتيجية عميقة، تتجاوز الأشخاص والحكومات. لكنها في الوقت ذاته، تحتاج إلى احترام متبادل وحساسية سياسية. وإذا استمرت إدارة ترامب في تجاهل أولويات الهند والتعامل معها كأداة في صراع مع الصين، فقد تجد واشنطن نفسها معزولة في منطقة حرجة. خسارة الهند لن تكون مجرد انتكاسة دبلوماسية، بل دليل على فقدان أمريكا لريادتها الأخلاقية والسياسية في عالم يتغير بسرعة.