علوم وتكنولوجيا

التكنولوجيا الزاهية ليست الطريق الوحيد: التقنية البسيطة قادرة على بناء عالم أفضل للجميع

"ابتكارات بسيطة، تأثير كبير: كيف تغير التقنية البسيطة حياة الناس"

في عالم تُسيطر عليه صور الصواريخ الفضائية الفارهة والذكاء الاصطناعي فائق القدرات، يروج لنا “أباطرة التكنولوجيا” لفكرة أن الابتكار لا يمكن أن يكون إلا باهظ الثمن، كثيف الطاقة، وصعب الهندسة. غير أن التجارب الميدانية على أرض الواقع تثبت العكس تمامًا: هناك ابتكارات محلية، منخفضة التكلفة، وعالية الأثر، قادرة على تغيير حياة الملايين دون أن تملأ جيوب أصحاب المليارات أو تفرض حلولًا مركزية قد تعقّد الحياة أكثر مما تُصلحها.

التقنية البسيطة: ابتكار من القاعدة إلى القمة

المهندسة والكاتبة الكندية أورسولا فرانكلين وصفت قبل عقود “أساطير التكنولوجيا” بأنها تنحصر في الخيال المعملي اللامع، بينما الواقع الحقيقي للابتكار غالبًا ما يكون “مدفوعًا بالاحتياج، وعمليًا، وناشئًا في الموقع، وقابلًا للتطوير التدريجي”.

هذا ما يُطلق عليه اليوم “التقنية البسيطة” أو Frugal Tech – وهي حلول عملية يولدها الأفراد والمجتمعات من موارد محدودة، لتخدم احتياجات حياتية ملحّة، وتدار محليًا بعيدًا عن تحكم الشركات العملاقة. هذه الابتكارات لا تسعى إلى السيطرة على الأسواق العالمية، بل إلى تمكين الأفراد من الاعتماد على أنفسهم.

من شبكات المجتمع إلى مراقبة البيئة

في مؤتمر Re:publica ببرلين، التقت الكاتبة بباحثين من “رابطة الاتصالات التقدمية” (APC)، وهي منظمة تعمل على استخدام تقنيات مثل الراديو المعرف برمجيًا وأجهزة استشعار الطيف الراديوي لتوفير الاتصال في مناطق منخفضة الموارد، حيث تكون البنية التحتية ضعيفة أو شبه منعدمة.

في دلتا النيجر – إحدى أكثر المناطق تلوثًا في العالم بسبب صناعة النفط – تُستخدم أجهزة استشعار بيئية منخفضة التكلفة لمراقبة جودة الهواء وتحذير الأهالي من أوقات وأماكن الخطر، خصوصًا على الأطفال. الأهم أن هذه الشبكات تُدار محليًا وتُنصب بأيدي المجتمع نفسه، ما يجعلها مستدامة ومستقلة.

الفجوة الرقمية الجديده 

في الوقت الذي تحتل فيه أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل GPT وDALL·E وGoogle Gemini العناوين الرئيسية، يظل مليارات الأشخاص عاجزين حتى عن استخدامها بسبب ضعف الاتصال بالإنترنت. الفجوة الرقمية اليوم لم تعد فقط في الوصول إلى الشبكة، بل في القدرة على استخدام التقنيات المتقدمة التي تحتاج إلى نطاق ترددي عالٍ وبنية تحتية قوية.

هنا تبرز أهمية الابتكار في إدارة التوازن بين مدى التغطية وجودة الاتصال، وتجاوز العوائق الطبيعية مثل الجبال أو الغابات، وهي تحديات لا يحلها الذكاء الاصطناعي السحابي الباهظ.

الابتكار من أجل الصالح العام

في الوقت الذي تنفق فيه الشركات العملاقة ملايين الدولارات لتخفيف القوانين المنظمة مثل قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي، تعمل المبادرات المجتمعية على الضغط لتوفير الإنترنت للجميع.

في “مساحة الصانعين” بالمؤتمر، عُرضت مشاريع مثل أجهزة استشعار بيئية تعمل بالطاقة الشمسية، يمكن تركيبها باستخدام Raspberry Pi ومكونات إلكترونية بسيطة متوفرة في الأسواق المحلية. كما برز مشروع OpenFlexure، الذي يوفر تصميمًا مفتوح المصدر لمجهر يمكن طباعته ثلاثي الأبعاد وتجميعه محليًا بكلفة زهيدة، ليصبح متاحًا في أماكن كانت أسعار المعدات العلمية فيها عائقًا أمام التشخيص الطبي.

ماسك

اشفافية وبناء الثقة

على عكس معظم التقنيات “الفاخرة” المغلقة خلف خوارزميات احتكارية، فإن هذه الابتكارات مفتوحة المصدر وتتطلب مشاركة المجتمع في تطويرها وتشغيلها. هذا لا يمنح المستخدمين إحساسًا بالسيطرة فقط، بل يعزز الثقة، إذ يمكن لأي شخص فهم كيفية عملها وتعديلها بما يتناسب مع قيمه واحتياجاته.

 

ابتكار محلي يقلب الموازين

قصة المزارعة البريطانية كريس كوندور تمثل نموذجًا حيًا. عندما حفرت بنفسها كابلات الألياف الضوئية في مزرعتها، أرادت إثبات أن “الأشخاص العاديين قادرون على فعل ذلك”. ما بدأ كمبادرة فردية تحول إلى منظمة B4RN التي تدعم شراكات مجتمعية لتوفير الإنترنت فائق السرعة في الريف البريطاني.

 

التكنولوجيا ليست حكرًا على المليارديرات

يروج “أمراء وادي السيليكون” لفكرة أن الابتكار الحقيقي يجب أن يكون صعب المنال، مكلفًا، ومعقدًا إلى حد التعجيز. لكن التجارب الواقعية تثبت أن القيمة الحقيقية للتكنولوجيا تكمن في بساطتها وقدرتها على الانتشار وخدمة الغالبية، لا في أرقام استثماراتها أو مقراتها الفاخرة.

 

الابتكار ليس فقط منافسة شرسة، بل تعاون بين العقول والمجتمعات. وحين تتبنى المجتمعات الحلول التقنية محليًا، فإنها لا تكتفي بحل المشكلات، بل تعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا.

 

نحو مستقبل تشاركي

الآن، وبينما تواصل المجتمعات حول العالم تحسين حياتها بوسائل مبتكرة وموارد محدودة، يبقى السؤال الأهم: هل سنظل مستهلكين سلبيين للتكنولوجيا، أم سنشارك في صنعها وفق ما يلبي احتياجاتنا ويعكس قيمنا؟

 

قد لا تحتاج بداية الابتكار إلى ناطحات سحاب أو ميزانيات بمليارات الدولارات، بل إلى أدوات بسيطة، ومهارات محلية، ورغبة حقيقية في التغيير.

اقرا ايضا

دعوات مشبوهة تكشف تحركات الإخوان في الخارج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى