هل فقدت “ماكنزي” بريقها؟ الاستشارة الكبرى على أعتاب قرنها الأول تواجه اختبار البقاء في عام 1940،

وصفت شركة “ماكنزي” للاستشارات الإدارية المرحلة الزمنية بأنها لحظة تاريخية نادرة تتسارع فيها التغييرات بوتيرة مذهلة، مؤكدة أن الشركات تواجه تحديات غير مسبوقة، وأن الطلب على خدماتها كان في تصاعد. اليوم، بعد ما يقارب مئة عام من التأسيس، يبدو أن “ماكنزي”، التي طالما عُرفت بأنها الاستشارة الأكثر نفوذًا وتأثيرًا في العالم، تعاني من فقدان حاد لبريقها. مع تحولات جيوسياسية كبرى وثورة الذكاء الاصطناعي التي تربك النماذج التقليدية للأعمال، تبدو “ماكنزي” عالقة بين ماضٍ حافل وهيبة متآكلة، ومستقبل يتطلب مرونة استثنائية. وبينما تتساءل الأسواق عن مصير هذه المؤسسة العريقة، يشير تقرير نشرته مجلة The Economist بتاريخ 3 أغسطس 2025 إلى أن “ماكنزي” تقف اليوم على مفترق طرق حاسم قد يحدد ما إذا كانت ستبقى في طليعة عالم الاستشارات، أم ستتوارى خلف منافسيها الأذكى والأسرع.
نمو مذهل توقف فجأة
خلال السنوات الماضية، حققت ماكنزي نموًا هائلًا، حيث بلغت إيراداتها في 2024 ما يزيد قليلًا عن 16 مليار دولار، أي أكثر من ضعف ما كانت عليه في 2012. لكن هذا النمو تباطأ فجأة ليصل إلى 2% فقط في 2024، وفق تقديرات “كينيدي إنتليجنس”، وهو تباطؤ وصفه محللون بأنه مقلق. والأسوأ من ذلك، أن الشركة بدأت تقليص قوتها العاملة من 45 ألفًا إلى 40 ألف موظف منذ نهاية 2023، وهو ما يُعَد مؤشراً على فقدان حصة سوقية أمام منافسين أكثر مرونة، مثل BCG وBain، الذين استغلوا التباطؤ ليعززوا مواقعهم. الأزمة الاقتصادية وحدها لا تبرر هذا التراجع؛ فالخلل يبدو أعمق بكثير.
توسّع غير منضبط وسلسلة فضائح محرجة
لطالما ادعت ماكنزي أن خدماتها “يُطلب منها تقديمها” ولا تُباع، وفقًا لما قاله مارفن باور، أحد مؤسسيها التاريخيين. إلا أن واقع التوسع في العقد الماضي كان مختلفًا تمامًا. ففي عام 2013، أعلن المدير التنفيذي حينها، دومينيك بارتون، في اجتماع في برلين أن النمو هو الأولوية القصوى، داعيًا الشركاء إلى “طلب الغفران بدلًا من الإذن”. وسرعان ما تورطت الشركة في فضائح مدوية: من التربح من شركات الأفيون في أمريكا، إلى عقود مشبوهة في جنوب أفريقيا. ورغم محاولات لاحقة لإصلاح المسار بقيادة كيفن سنيادر، فإن الأخير أُقصي في 2021 ليعود التركيز على إرضاء الشركاء أكثر من تصحيح الانحرافات الأخلاقية.
طفرة رقمية وإنجازات جزئية
رغم التحديات، استفادت ماكنزي من طفرة التحول الرقمي بعد جائحة كورونا، حيث استثمرت بشكل مكثف في توسيع ذراعها التكنولوجي عبر الاستحواذ على 16 شركة متخصصة بين عامي 2013 و2023. هذا التوجه مكّنها من تقديم خدمات تتعدى مجرد الاستشارات لتشمل بناء أدوات تحليل البيانات والنماذج الأولية للمنتجات، ما وضعها في منافسة مباشرة مع شركات مثل Accenture وكبرى شركات المحاسبة. إلا أن دخولها هذا السوق اضطرها لتغيير آلية تسعيرها وربما هويتها، فباتت ترتبط بالنتائج بدلًا من الأجر الثابت، كما بدأت في توظيف تقنيين وخبراء تنفيذ أكثر من مستشاريها الكلاسيكيين.
منافسة شرسة من BCG وظهور لاعبين جدد
بينما تكافح ماكنزي للحفاظ على موقعها، تمكنت BCG من التقدم بخطوات أكثر فاعلية، حيث نمت إيراداتها بنسبة 10% في 2024، أي خمسة أضعاف ماكنزي. الفجوة بينهما تضيق سريعًا، ما ينذر بأن BCG قد تتجاوز ماكنزي بحلول عام 2027 لتصبح الأولى عالميًا. كما برزت شركات جديدة تُهدد النموذج التقليدي للاستشارات مثل Palantir، التي تدمج الذكاء الاصطناعي بتحليل البيانات، وتحقق نموًا سنويًا بلغ 39%، فضلًا عن شركات برمجية مثل OpenAI، التي بدأت في تقديم خدمات تشبه الاستشارات التقليدية. هذه الديناميكية الجديدة تجعل من الواضح أن المستقبل لن يكون حكرًا على الأسماء الكلاسيكية.
الذكاء الاصطناعي: خطر وجودي أم فرصة؟
ما يزيد من تعقيد المشهد هو صعود الذكاء الاصطناعي، الذي يُتوقع أن يعيد تشكيل سوق الاستشارات من جذوره. المهام التي كان ينفذها محللون وخبراء على مدار أسابيع قد تُنجز خلال دقائق بفضل أدوات تعتمد على خوارزميات متقدمة. صحيح أن ماكنزي تملك وحدة متخصصة في الذكاء الاصطناعي تُدعى “QuantumBlack”، وتفاخر بنموذجها الخاص “Lilli”، لكن هذا قد لا يكفي. فالعملاء قد يبدأون بالتساؤل: لماذا ندفع ملايين الدولارات مقابل خدمات يستطيع الذكاء الاصطناعي تقديمها بكفاءة أكبر؟ ومن هنا، يبدو أن ماكنزي تحتاج إلى أكثر من مجرد “تفوق تقني” لتضمن استمرار تفوقها.