عرب وعالم

حزب الله بين التحديات الداخلية والخارجية: مستقبل مجهول يلوح في الأفق

تأثيرات الاغتيال والتراجع الإقليمي على مستقبل الحزب والمنطقة

في مشهد يعكس التحولات الجذرية التي تشهدها المنطقة، يواجه حزب الله اللبناني تحديًا غير مسبوق يهدد ركائز وجوده، بعد أن كان لعقود طويلة يُعتبر اللاعب الأبرز عسكريًا وسياسيًا على الساحة اللبنانية. فمع اغتيال أمينه العام حسن نصر الله في أعقاب حرب غزة 2023، وتراجع الدعم الإقليمي من طهران ودمشق، تهاوت أوراق القوة التي طالما اعتمد عليها الحزب، وعلى رأسها ترسانته العسكرية. ورغم حالة الضعف الحالية، يرفض الحزب بشكل قاطع التخلي عن أسلحته التي باتت، بالنسبة له ولأنصاره، آخر ما تبقى من رصيد “الممانعة”. لكن في المقابل، تتصاعد الضغوط من الداخل اللبناني ومن القوى الغربية والعربية، لربط إعادة إعمار ما دمرته الحرب بنزع سلاح الحزب. وسط هذه المعادلة المعقدة، يتبدّى المشهد اللبناني مقبلًا على مرحلة شديدة الحساسية، سيكون لمصير حزب الله دور محوري في رسم ملامحها، سواء نحو الاستقرار والتعافي، أو الانزلاق نحو مواجهة داخلية مريرة.

اغتيال نصر الله: ضربة في القلب السياسي والعسكري

اغتيال حسن نصر الله في أعقاب حرب أكتوبر 2023 مثّل لحظة فاصلة في مسيرة حزب الله، إذ لم يكن الرجل مجرد قائد سياسي، بل هو من أسس لهيبة الحزب ونسج هويته الفكرية والعقائدية. اغتياله جاء ضمن سلسلة عمليات إسرائيلية مركّزة استهدفت قادة الحزب خلال الحرب التي اندلعت تضامنًا مع حماس، وفتحت جبهة الجنوب اللبناني من جديد. بعد مقتله، تحوّل قبره في الضاحية الجنوبية إلى مزار سياسي وروحي لأنصاره، بينما ارتفعت صورته في مسيرات حزينة ومشحونة بالعاطفة والحنين إلى “الزمن الذهبي” للمقاومة. غياب نصر الله ترك فراغًا ضخمًا لم يملأه خلفه نعيم قاسم، رغم محاولاته للظهور بثقة وتحدٍ، إذ يرى كثيرون أن الحزب فقد زعيمه ومحرّكه الأبرز، وهو ما انعكس على تراجع الحضور الإعلامي والعسكري في آن. بهذا الاغتيال، خسر حزب الله رأسه المفكر وصوته الجامع، وبات يواجه المرحلة المقبلة من موقع دفاعي هش.

السلاح… الورقة الأخيرة في قبضة الحزب

منذ تأسيسه، شكّل السلاح محور هوية حزب الله وعموده الفقري. فبفضل ترسانته العسكرية، فرض نفسه قوة موازية للجيش اللبناني، وردع إسرائيل في أكثر من مواجهة، أبرزها عام 2006. لكن بعد الحرب الأخيرة، تقلّصت قدرات الحزب بشكل ملحوظ، وسط تقارير تفيد بتدمير جزء كبير من مخازن أسلحته وغارات إسرائيلية استهدفت مواقعه القيادية. رغم ذلك، يصرّ الحزب على الاحتفاظ بما تبقى، معتبرًا أن التخلي عن السلاح هو بمثابة انتحار سياسي ووطني. نائبه الجديد، نعيم قاسم، عبّر بوضوح عن هذه الرؤية، مؤكدًا أن السلاح هو الوسيلة الوحيدة للردع في ظل استمرار “العدوان الإسرائيلي”. ومع الضغوط الأميركية المتزايدة، تبدو معركة نزع السلاح كمعركة كسر عظم بين الحزب من جهة، والدولة والمجتمع الدولي من جهة أخرى. هذه الورقة، رغم ضعفها مقارنةً بالماضي، لا تزال تمثّل خط الدفاع الأخير الذي يرفض الحزب التفريط فيه، مهما كان الثمن.

حكومة مأزومة بين الضغوط والمخاوف

تجد الحكومة اللبنانية نفسها عالقة في معادلة شديدة التعقيد: كيف تنزع سلاح حزب الله دون إشعال فتنة داخلية؟ الرئيس جوزيف عون، الجنرال السابق، يحاول إمساك العصا من المنتصف، إذ يُبدي تفهمًا لـ”مخاوف الحزب” لكنه يشدد على أن حماية لبنان مسؤولية الدولة وحدها. في المقابل، يربط المجتمع الدولي أي دعم مالي لإعادة إعمار لبنان بضرورة نزع سلاح الحزب، وهو ما يجعل الحكومة تسير فوق حقل ألغام. الوضع الاقتصادي الكارثي، والانهيار في البنية التحتية، والحاجة الماسة إلى نحو 11 مليار دولار، كلها عناصر تدفع الدولة نحو الرضوخ للمطالب الدولية. إلا أن أي خطوة متسرعة نحو نزع السلاح قد تُشعل اضطرابات داخلية، لا سيما في ظل استمرار التأييد الشعبي للحزب في بعض الأوساط الشيعية. أمام هذا الواقع، تبقى الخيارات محدودة، ويبدو أن أي حل سيكون مؤقتًا ما لم يترافق مع تسوية إقليمية أوسع.

انحسار المحور الإيراني وتآكل الدعم الإقليمي

في السابق، كان حزب الله يُعد حجر الزاوية في “محور المقاومة” الذي تقوده إيران، ويمتد من طهران إلى بيروت مرورًا ببغداد ودمشق. اليوم، تبدو تلك الشبكة في حالة تراجع ملحوظ. طهران، المُنهكة من أزماتها الداخلية وحربها القصيرة مع إسرائيل، باتت أقل قدرة على تمويل وتسليح الحزب كما في السابق. أما سوريا، الحليف التاريخي، فتخضع الآن لسلطة جديدة أقل ودًا للحزب، وتسعى لتقليص نفوذ إيران داخل أراضيها، ما أدى إلى تعطيل العديد من شبكات التهريب التي كانت توصل المال والسلاح إلى جنوب لبنان. هذا الانكماش في الدعم الإقليمي أضعف الحزب على المستويين اللوجستي والمعنوي، وجعل خياراته العسكرية محدودة جدًا. ومع انعدام أي تدخل من طهران أثناء الحرب الأخيرة، فقد الحزب ظهيره الإستراتيجي، ما عزّز شعور العزلة داخله وأثار تساؤلات جدية حول مستقبله في حال تخلى الحلفاء الإقليميون عنه نهائيًا.

انسحاب تدريجي وضغوط ميدانية متصاعدة

الميدان لا يكذب. فبعد اتفاق وقف إطلاق النار، انسحب معظم مقاتلي حزب الله من الجنوب اللبناني، في خطوة رأى فيها البعض تراجعًا واضحًا للنفوذ الميداني. الجيش اللبناني، بدعم من قوات الأمم المتحدة، أعلن أنه فكّك 90% من البنية العسكرية للحزب في تلك المنطقة. كذلك، تُظهر الصور الجوية والتقارير الاستخباراتية تقلص وجود الحزب في معاقله التقليدية، وهو ما يُعد مؤشرًا إضافيًا على حالة الإنهاك. إسرائيل من جهتها لم تتوقف عن تنفيذ غارات شبه يومية داخل الأراضي اللبنانية، تحت ذريعة ضرب أهداف تابعة للحزب، بينما يكتفي الأخير بالتصريحات الإعلامية، دون ردود فعل تُذكر. هذا الجمود العسكري يعكس تحولًا في استراتيجية الحزب أو ربما يعبر عن عجزه الراهن، في ظل الخسائر البشرية الكبيرة، وتآكل البنية القتالية، وغياب قيادات الصف الأول. كل ذلك يرسم مشهدًا جديدًا للحزب، يخلو من النشوة العسكرية التي عرف بها سابقًا.

الشارع الشيعى بين الغضب والارتباك

في البيئة الحاضنة لحزب الله، وخصوصًا في الجنوب وضاحية بيروت، تتنامى مشاعر الغضب والإحباط، رغم أن الأصوات الناقدة لا تزال خافتة. فبينما يرفع الحزب شعارات “النصر الإلهي”، يشاهد الأهالي منازلهم مدمرة، وأرزاقهم مهدّمة، دون أن تلوح في الأفق أي مساعدات حقيقية لإعادة الإعمار. كثيرون يعبّرون عن امتعاضهم من الوعود الخادعة، ويطالبون بمعرفة مصير أموال التعويضات، ويحمّلون الحزب ضمنيًا مسؤولية التصعيد. هذا التذمر، وإن كان حتى الآن تحت السطح، إلا أنه يُنذر بحدوث تغير في المزاج الشعبي، لا سيما في صفوف الجيل الجديد، الذي يرى في السلاح عبئًا بدل أن يكون حماية. لكن في الوقت ذاته، لا يزال هناك من يرفع صوته دفاعًا عن الحزب، معتبرًا أن التخلي عن السلاح سيكون خيانة “للمقاومة” وفتحًا لأبواب السيطرة الإسرائيلية مجددًا. هذا الانقسام الصامت داخل البيئة الشيعية يعبّر عن هشاشة المرحلة، وإمكانية تغيّر المعادلة في أي لحظة.

الخاتمة: معركة الهوية والمستقبل

حزب الله، الذي بُني على معادلة “السلاح والقيادة”، يواجه اليوم اختبارًا وجوديًا غير مسبوق. فمع غياب الزعيم، وتآكل السلاح، وتراجع الدعم الخارجي، تتآكل الركائز الأساسية التي قام عليها. الضغوط الإقليمية والدولية لن تتوقف، وحالة الإنهاك الشعبي مرشحة للتفاقم. في المقابل، الحزب لا يزال يملك أدوات خطابية وقدرات تنظيمية قد تمكّنه من إعادة التموضع، إذا ما اختار خفض التصعيد والاندماج في الدولة. لكن السؤال الأهم يبقى: هل يُمكن لحزب تأسس على المقاومة المسلحة أن يتحول إلى كيان سياسي تقليدي؟ أم أن الانفجار آتٍ لا محالة إذا استمر التمسك بالسلاح؟ الأيام القادمة وحدها ستحمل الإجابة، وسط واقع إقليمي متغيّر وساحة لبنانية تئن تحت وطأة الانهيار.

اقرا ايضا

صفقة الكل أو لا شيء: واشنطن وتل أبيب تطرحان حلاً نهائياً لحرب غزة 

نيرة احمد

نيرة أحمد صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى