رجل باكستان القوي: آصف منير بين التقرّب من ترامب وتشديد القبضة داخليًا

في تحوّل غير متوقّع في المشهد الجيوسياسي، برز اسم المشير الباكستاني آصف منير كأحد الفاعلين المحوريين في المعادلة الإقليمية والدولية، بعد سنوات من العزلة السياسية والتراجع الاقتصادي لبلاده. فبعد صراع حدودي قصير مع الهند، استقبل دونالد ترامب، العائد إلى البيت الأبيض، قائد الجيش الباكستاني على مأدبة غداء خاصة في يونيو، في خطوة مثّلت انعطافة لافتة في العلاقات بين واشنطن وإسلام آباد.
وبينما وصف ترامب الهند بأنها “اقتصاد ميت”، فرض عليها رسومًا جمركية تصل إلى 25%، بالتوازي مع إبرام اتفاقات تجارية جديدة مع باكستان، في إشارة سياسية واضحة لتغيير الأولويات الأمريكية في جنوب آسيا.
عودة واشنطن إلى إسلام آباد: حسابات استراتيجية جديدة
العلاقة بين باكستان والولايات المتحدة كانت قد شهدت فتورًا لسنوات، خاصة بعد مقتل أسامة بن لادن في أراضيها عام 2011، ثم الانسحاب الأمريكي من أفغانستان. لكن واشنطن اليوم تعيد تقييم أوراقها: باكستان باتت مجددًا شريكًا محتملًا في ملف مكافحة الإرهاب، ومنصة للتأثير في السياسات الشرق أوسطية، خصوصًا في ظل المساعي لتوسيع اتفاقات التطبيع مع إسرائيل. هناك أيضًا حديث عن استئناف مبيعات السلاح، ما قد يُضعف اعتماد باكستان على الصين، التي تزوّدها حاليًا بـ80% من عتادها العسكري.
طموحات رئاسية أم تمركز عسكري طويل الأمد؟
رغم نفي المؤسسة العسكرية وجود نوايا لدى منير لتولي منصب الرئاسة، فإن ملامح الحكم العسكري تتكشّف تدريجيًا. فالحكومة المدنية الحالية، المدعومة من الجيش، نجحت في تعديل التوزيع البرلماني بما منحها أغلبية الثلثين، ما يسمح بتعديل الدستور بسهولة. ويرى مراقبون أن منير قد يسعى لفرض نفسه كرئيس للجمهورية، على غرار النموذج الذي أسسه أيوب خان، أول ديكتاتور عسكري لباكستان. ويصفه البعض بأنه يحكم البلاد فعليًا اليوم تحت ما بات يُعرف بـ”قانون آصف” بدلًا من “قانون الطوارئ”.
رجل الدين والعسكر: معادلة الإيمان والواقعية
بعيدًا عن الصورة النمطية للقادة العسكريين، يتمتع منير بخلفية دينية متجذّرة؛ فهو حافظ للقرآن وتعلّم في مدرسة دينية. لكنه، وفق المتحدث العسكري الرسمي، يعارض استغلال الدين لأغراض سياسية، ويُبدي استياءه من رجال الدين الذين “حولوا الدين إلى تجارة”. هذه الموازنة بين التدين الشخصي والحذر السياسي جعلت منه شخصية مثيرة للاهتمام: مؤمن لكنه لا يحكم بالشريعة، محافظ لكنه لا يُخضع السياسة للروحانية. وبينما لم يتلقَ تدريبه العسكري في الغرب، كما فعل سابقوه، يُقال إنه ملمّ بالعالم الخارجي ويتبنّى نهجًا اقتصاديًا شبيهًا برؤية ولي عهد السعودية محمد بن سلمان.
الصراع مع خان… جراح لم تلتئم
علاقة منير مع رئيس الوزراء السابق عمران خان محفوفة بالتوتر والتاريخ المؤلم. خان كان قد أقاله من منصبه كرئيس للمخابرات عام 2019، في خطوة يعتبرها منير طعنة شخصية. اليوم، وبعد سجن خان ومنعه من الترشح، تسعى السلطة لتفكيك قاعدته الشعبية، حيث تم سجن العشرات من مؤيديه، بينهم أكثر من 100 شخص في يوم واحد نهاية يوليو. ومع أن منير يفضل استمرار ما يُسمّى بـ”النظام الهجين”، الذي يجمع بين الواجهة المدنية والحكم العسكري، إلا أن شبح خان يظل يطارد النظام، وسط مخاوف من أن أي خطوة استبدادية قد تعزز التعاطف الشعبي مع الزعيم الشعبوي.
الهند في مرمى الخطاب والتصعيد
في أبريل الماضي، أطلق منير خطابًا ناريًا وصف فيه كشمير بـ”الوريد الوداجي” لباكستان، مؤكدًا أن “الهندوس والمسلمين لا يمكن أن يتعايشوا في أمة واحدة”، في تلميح أيديولوجي خطير. رغم نفي بلاده التورط في الهجوم الأخير بكشمير، تُتهم المؤسسة العسكرية بالتحريض والتخطيط الضمني. وفي حال استمرت الهند في استهداف الأراضي الباكستانية، توعدت القيادة العسكرية بردود أعمق، إذ صرّح المتحدث العسكري بأن الرد “سيبدأ من الشرق… فهم بحاجة لفهم أنهم أيضًا يمكن أن يُستهدفوا في كل مكان”.
التحالف مع ترامب: مصالح متبادلة أم مقامرة؟
العلاقة بين منير وترامب تتجاوز البروتوكول؛ فالأخير معروف بإعجابه بالزعماء الأقوياء، وقدّم إشارات عديدة بإعادة دمج باكستان في استراتيجياته الشرق أوسطية. بالمقابل، أبدت إدارة ترامب اهتمامًا بقطاعات مثل العملات الرقمية والتعدين في باكستان، وأعادت إطلاق برامج مساعدات كانت معلّقة. كذلك خفّفت من انتقاداتها لبرنامج باكستان الصاروخي، الذي كان مصدر قلق في عهد بايدن. هذه العلاقة قد تبدو مفيدة لكلا الطرفين، لكنها قائمة على توازن هشّ وسط تنافس النفوذ الأميركي-الصيني في المنطقة.
اقرأ أيضاً نساء أوكرانيا في الصفوف الأمامية: كيف تغيّر الحرب ملامح الجيش والمجتمع؟
بين واشنطن وبكين: السير على حبل دقيق
تحاول باكستان طمأنة الصين بأن تقاربها مع أمريكا لن يكون على حساب الشراكة الإستراتيجية القائمة بينهما، خصوصًا في إطار ممر الصين-باكستان الاقتصادي (CPEC). لكن بكين تراقب عن كثب، لا سيما أن أي تقارب باكستاني-أمريكي قد يُضعف من نفوذها جنوب آسيا. منير يسعى لبناء علاقة “متعددة الأبعاد” مع واشنطن، تدمج الأمن بالتجارة والتكنولوجيا، لكنه يُدرك أن المغامرة قد تكلفه كثيرًا، في حال شعر الصينيون بالتهميش. باكستان، كما وصفها أحد الدبلوماسيين، “تمشي على حبل مشدود فوق نيران المنافسة الجيوسياسية”.
خاتمة: رجل واحد… ومصير أمة
المشير آصف منير بات الرقم الأصعب في المعادلة الباكستانية، بل والإقليمية. شخصيته الغامضة، خلفيته الدينية، قراراته الجريئة، وتحالفاته الجديدة، تضع مستقبل ثاني أكبر دولة مسلمة في العالم بين يديه. فهل يسعى لأن يكون رئيسًا يعزز حكم العسكر؟ أم يفضّل الاستمرار كقائد ظل يضبط المشهد من خلف الكواليس؟ وماذا يعني هذا التحول لجنوب آسيا، حيث الخصومة النووية بين باكستان والهند تزداد اشتعالًا؟ ما هو مؤكد أن منير ليس مجرد قائد عسكري عابر، بل وجه جديد لطموحات قديمة… قد تعيد تشكيل خريطة النفوذ في آسيا.