عندما يغير ترامب موقفه الجمهوريون يتراجعون ويصطفون خلفه بلا تردد
إقالة مفاجئة لمسؤولة رسمية تفتح باب التشكيك في حيادية المؤسسات الأمريكية

في مشهد سياسي بات مألوفًا في عهد دونالد ترامب، لم يتردد حلفاء الرئيس الجمهوري في تغيير مواقفهم بزاوية 180 درجة، ليصطفوا خلف زعيمهم مجددًا، حتى وإن كان ذلك يعني مهاجمة مؤسسات رسمية طالما استندوا إلى بياناتها لتعزيز روايتهم الاقتصادية.
هذا ما حدث بعد قرار ترامب المفاجئ بإقالة مفوضة مكتب إحصاءات العمل الأميركي (BLS)، إريكا ماكنترفَر، عقب صدور تقرير وظائف لم يرق له. إذ سرعان ما تحوّلت التصريحات، التي كانت قبل أيام فقط تُشيد بالأرقام الصادرة عن المكتب، إلى حملة تشكيك وهجوم، واتهامات بـ”التزوير” و”التحيّز”، رغم أن الأدلة الوحيدة التي قدّمها ترامب كانت: “هكذا أعتقد”.
من التهليل للأرقام إلى مهاجمة الجهة المصدرة
قبل أسابيع فقط، وقف ترامب في المكتب البيضاوي متفاخرًا بمخطط بياني يُظهر زيادة في وظائف التصنيع. ونشرت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، تغريدة احتفالية قالت فيها: “أخبار رائعة!”، بينما روّج نائبه، جي دي فانس، لأرقام أظهرت ارتفاعًا في التوظيف بين المولودين داخل الولايات المتحدة.
لكن كل ذلك تغيّر بمجرد صدور تقرير الوظائف الأخير، الذي لم ينسجم مع رغبات ترامب، فقرر إقالة المسؤولة عنه واتهام المكتب علنًا بالتلاعب بالأرقام. وهنا بدأ الحرج داخل أوساط الجمهوريين: كيف يهاجمون المؤسسة التي طالما استندوا إلى بياناتها، دون أن يُظهروا تناقضهم؟ الجواب، كما اعتاد الحزب في عهد ترامب، هو الاصطفاف دون تردد خلف الرئيس، واتباع روايته حرفيًا، حتى وإن افتقدت إلى المنطق أو الأدلة.
اقرا ايضا:
بولندا تتخلى عن حلمها المدرع: لماذا فضّلت وارسو الدبابة الكورية على تطوير دبابتها الوطنية؟
انتقادات بلا سند… ومفردات مألوفة
سرعان ما تبارى حلفاء ترامب في اتهام المفوضة المقالة بإصدار تقارير “مضلّلة”، رغم أنهم وافقوا على تعيينها العام الماضي بأغلبية ساحقة في مجلس الشيوخ (86 صوتًا مقابل 8). السيناتور ماركواين مولين قال في مقابلة تلفزيونية: “أنا سعيد لأنها طُردت. كانت تصدر تقارير زائفة”. أما السيناتور روجر مارشال، فرأى أن ماكنترفَر أظهرت “عدم كفاءة”، زاعمًا أنها ضخّمت أرقام التوظيف بـ800 ألف وظيفة قبل الانتخابات، ثم أخفقت بتوقعات الوظائف في الشهرين الأخيرين.
هذه الهجمات لم تكن مدعومة بأي دليل رسمي، بل جاءت كاستجابة مباشرة لردة فعل ترامب العنيفة على تقرير واحد، رغم أن تقارير BLS تخضع باستمرار للمراجعة التقنية، وهي ممارسة معتادة لضبط البيانات وتحسين دقتها.

من انهم من وافقوا عليها العام الماضي. “
ما وراء الإقالة: نزعة سياسية لا إدارية
رغم أن المكتب معروف باستقلاليته، وإجراءاته المصممة لمنع التدخل السياسي في عمله، لم يتردد ترامب في تسييس المسألة، ملوّحًا بأنه يريد “أناسًا موثوقين” داخل المكتب، لأنهم — كما قال — سيصدرون أرقامًا “أكثر شفافية وموثوقية”.
لكن مراقبين يرون في هذه الإقالة رسالة أوسع: من لا يُرضي الرئيس، حتى لو كان يؤدي عمله بمهنية، فإن بقاءه في منصبه مهدد. يقول ستيفن فارنسوورث، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ماري واشنطن:
“حتى عندما تأتي الأخبار الاقتصادية إيجابية، فهي لا تكفي إن لم يشعر ترامب أنها تُجمل صورته. الإقالة هنا رسالة تحذير لباقي المسؤولين: الرئيس يتابع، ومن لا يخدم صورته، عليه أن يغادر.”
أزمة ثقة تهدد الأسواق
ما يثير القلق حقًا هو الأثر الأوسع لهذه الحملة على مصداقية الأرقام الاقتصادية، والتي يعتمد عليها المستثمرون، وصنّاع القرار، والمصرف الفيدرالي، بل والعالم أجمع. فإذا أصبحت مؤسسات مثل BLS عُرضة لتهم “التزوير” دون أدلة، فإن ذلك يُقوض الثقة في الاقتصاد الأمريكي نفسه، ويجعل من الصعب اتخاذ قرارات مبنية على بيانات موثوقة.
ويقول فارنسوورث إن هذه الأجواء قد تُربك الأسواق: “إذا أصبحت دقة الأرقام الحكومية موضع شك، فإن القدرة على اتخاذ قرارات عقلانية مبنية على البيانات ستتراجع بشدة.”
تناقض صارخ… وتاريخ طويل من مهاجمة الحقائق
لدى ترامب سجل طويل في مهاجمة المؤسسات أو الجهات التي لا تُعجبه نتائجه. من رفضه لنتائج جائزة الإيمي، إلى زعمه أن باراك أوباما لم يفز بالتصويت الشعبي، وصولًا إلى ادعاءاته الكاذبة بشأن سرقة الانتخابات في 2020. واليوم، يعيد الرئيس الكرّة مع مؤسسة إحصائية مرموقة لمجرد أنها أصدرت تقريرًا سلبيًا في توقيت حساس.
البيت الأبيض بدوره لم يتوانَ عن الانضمام إلى الحملة، ونشر بيانًا اتهم فيه ماكنترفَر بتاريخ “طويل من الأخطاء”، مدّعيًا أن مشاكل الدقة في بيانات التوظيف بدأت منذ جائحة كورونا.

ما القادم؟ اختبارات جديدة لاستقلالية المؤسسات
في ظل هذه الأجواء، يواجه الكونغرس اختبارًا مهمًا: هل سيصرّ على تعيين بديل مؤهل ومستقل لرئاسة BLS؟ أم سيستسلم لضغوط البيت الأبيض ويختار شخصية مطواعة سياسيًا؟ الجواب سيتضح في الأشهر المقبلة، لكنه سيُعد مؤشرًا على مدى قدرة المؤسسات الأمريكية على الصمود أمام نزعة “الشخصنة” التي ميزت عهد ترامب.
ويختم فارنسوورث قائلًا: “المسألة اليوم تتجاوز مجرد تقرير وظائف. هي عن حدود التدخل السياسي، وعن قدرة الحكومة على إنتاج بيانات تُخدم الجميع — لا شخصًا واحدًا فقط.”