إيران تعرض صفقة جديدة: رقابة نووية مشددة مقابل رفع العقوبات

في لحظة فارقة تعكس احتدام الصراع بين الدبلوماسية والتهديدات الجيوسياسية، خرج وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، برسالة واضحة موجّهة إلى أوروبا عبر مقال نشرته صحيفة الغارديان. في رسالته، وضع عراقجي معادلة مباشرة: إيران مستعدة لقبول رقابة صارمة وحدود واضحة على برنامجها النووي، بشرط أن يتم رفع العقوبات المفروضة عليها. لكن تحذيراته حملت لهجة تهديدية، إذ شدّد على أن “نافذة الفرصة قصيرة”، وأن الفشل في اغتنامها قد يقود إلى تداعيات “مدمرة وغير مسبوقة” على المنطقة وربما أبعد من ذلك.
التحرك الإيراني يأتي في ظل ارتباك أوروبي بشأن تفعيل آلية “السناب باك” لإعادة فرض العقوبات الأممية، وتزامنًا مع خلافات داخلية في طهران بين الحكومة الساعية للتسوية والبرلمان المحافظ الملوّح بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي. كما لم يخلُ خطاب عراقجي من رسائل موجهة إلى واشنطن وتل أبيب؛ فهو ذكّر الأوروبيين بأن الولاء الأعمى للولايات المتحدة لن يمنحهم مكانة دولية، فيما وصف المواجهة العسكرية الأخيرة مع إسرائيل بأنها دليل جديد على قدرة طهران على فرض معادلات ميدانية لا يمكن تجاهلها.
الرقابة مقابل رفع العقوبات
أكد عراقجي أن طهران لا تمانع في السماح للمفتشين الدوليين بالعودة إلى المواقع النووية التي تعرضت للقصف، شريطة أن يقترن ذلك برفع العقوبات الاقتصادية. هذا العرض يعكس رغبة إيران في تجنب العزلة، لكن في الوقت ذاته يكشف إدراكها بأن البرنامج النووي أصبح ورقة مساومة أساسية. بعبارة أخرى، إيران تطرح صفقة “الشفافية مقابل الاقتصاد”، محاولة استباق خطوات أوروبا لإعادة العقوبات التي قد تعصف بالاقتصاد الإيراني الهش وتزيد من عزلة النظام داخليًا وخارجيًا.
تحذير مبطن لأوروبا
في مقاله، خاطب عراقجي بريطانيا وفرنسا وألمانيا بلغة مباشرة، مؤكدًا أن السير خلف واشنطن لن يجلب لها مكاسب استراتيجية، بل سيجعلها معزولة دوليًا. فوفق الرؤية الإيرانية، إعادة العقوبات الأممية ستُقصي أوروبا من أي عملية تفاوض مستقبلية، تاركة المجال للولايات المتحدة كي تتحكم بمفاتيح الملف النووي. هذا التحذير ليس مجرد خطاب سياسي، بل محاولة لإحداث شرخ في الموقف الغربي الموحد وإعادة أوروبا إلى دور الوسيط الذي لعبته في الاتفاق النووي الأصلي عام 2015.
صراع داخلي في طهران
رغم الخطاب التصالحي نسبيًا من الحكومة، فإن البرلمان الإيراني الذي يهيمن عليه المحافظون يدرس مشروع قانون للانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي إذا ما أعيد فرض العقوبات. هذا التناقض يعكس مأزقًا داخليًا: فبينما تسعى وزارة الخارجية إلى فتح قنوات للتفاوض، يلوّح التيار المتشدد بورقة الانسحاب الكامل من النظام الدولي، وهو ما سيؤدي عمليًا إلى إغلاق أبواب الرقابة وفتح الباب أمام تسارع تخصيب اليورانيوم بعيدًا عن أعين الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
التشكيك في مكانة أوروبا الدولية
انتقد عراقجي الأوروبيين بحدة، معتبرًا أنهم خسروا مكانة الوسيط المحايد عندما اختاروا الانحياز لواشنطن. أشار إلى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا يرى في بريطانيا وفرنسا وألمانيا سوى “لاعبين ثانويين”، وضرب مثالًا باستبعادهم من ملفات كبرى مثل الحرب في أوكرانيا. من وجهة نظر طهران، هذا الإقصاء يوضح أن الرهان على واشنطن لن يمنح أوروبا وزنًا دوليًا، بل يزيد من تهميشها ويقوض مصداقيتها أمام العالم.
التهديد الإسرائيلي في قلب المشهد
لم يفت عراقجي أن يربط الملف النووي بالتصعيد العسكري مع إسرائيل، مشيرًا إلى أن تل أبيب اضطرت في حرب يونيو الأخيرة إلى الاعتماد على الدعم الأمريكي المباشر. الرسالة الإيرانية واضحة: “إسرائيل عاجزة عن مواجهة إيران بمفردها”، وبالتالي فإن أي محاولة لإعادة إشعال الحرب ستنتهي بكلفة باهظة على إسرائيل والغرب معًا. هذا الطرح يعزز صورة إيران كقوة إقليمية قادرة على فرض توازن ردع في مواجهة خصومها.
الرهان على المرونة الأوروبية
ترى طهران أن الأوروبيين ما زالوا قادرين على تعديل موقفهم قبل الموعد النهائي لإعادة العقوبات. عراقجي دعاهم إلى التفكير في مصالحهم الاقتصادية والسياسية بعيدًا عن الضغوط الأمريكية، ملمحًا إلى أن استمرار العقوبات لن يضر بإيران وحدها، بل سيؤدي أيضًا إلى زعزعة استقرار المنطقة، وهو ما ينعكس مباشرة على أوروبا من خلال موجات هجرة جديدة وتهديدات أمنية متصاعدة.
البعد الإقليمي للتصعيد
أشار عراقجي بوضوح إلى أن فشل الدبلوماسية لن تكون عواقبه محصورة داخل إيران، بل سيمتد إلى المنطقة بأسرها وربما إلى النظام الدولي. تحذيره من “عواقب غير مسبوقة” يوحي بأن طهران قد تلجأ إلى خيارات قصوى مثل الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار أو تسريع برنامجها النووي، ما سيضع المنطقة على حافة سباق تسلح نووي جديد يهدد الاستقرار العالمي.
اختبار جديد لمستقبل الاتفاق النووي
في المحصلة، يجد المجتمع الدولي نفسه أمام اختبار جديد شبيه بما واجهه قبل عقد من الزمن: إما العودة إلى طاولة المفاوضات عبر حلول وسطية تحفظ ماء وجه الجميع، أو الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة ستغير ملامح الشرق الأوسط لعقود قادمة. وبينما تواصل إيران اللعب على خط رفيع بين التهديد والمرونة، يبقى السؤال: هل ستنجح أوروبا في الخروج من ظل واشنطن والعودة كوسيط حقيقي، أم أن الملف النووي سيتحول إلى ساحة مواجهة جديدة بين طهران وخصومها؟