أوروبا تبحث إنشاء “جدار من الطائرات المسيرة” لحماية أجوائها

تشهد القارة الأوروبية سباقًا متسارعًا لتعزيز دفاعاتها الجوية في ظل تزايد التهديدات الروسية باستخدام الطائرات المسيرة، وهو ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى مناقشة مشروع استراتيجي غير مسبوق أطلق عليه اسم “الجدار المضاد للطائرات المسيرة”. الفكرة، التي انطلقت من ليتوانيا قبل أكثر من عامين، اكتسبت زخمًا أكبر بعد الحوادث الأخيرة التي شهدتها بولندا ورومانيا. ويعكس هذا التوجه إدراكًا أوروبيًا متناميًا بأن الحروب الحديثة لم تعد تعتمد فقط على الصواريخ التقليدية، بل أصبحت الطائرات المسيرة أداة هجومية رئيسية يصعب التصدي لها. المشروع، إذا ما تم اعتماده، قد يمثل خطوة فاصلة في قدرة الاتحاد على حماية حدوده الشرقية وضمان أمن مواطنيه.
اجتماع أوروبي حاسم لمناقشة المشروع
من المقرر أن يجتمع وزراء دفاع الاتحاد الأوروبي الأسبوع المقبل في برلين لمناقشة تفاصيل خطة “الجدار المضاد للطائرات المسيرة”، وفق ما نقلته وكالة رويترز. تأتي هذه المبادرة في أعقاب انتهاك أجواء بولندا من قبل طائرات روسية مسيرة الأسبوع الماضي، ما أدى إلى أضرار مادية أصابت منازل مدنيين. اعتبر المفوض الأوروبي للدفاع، أندريوس كوبيليوس، أن الوضع بلغ مرحلة حرجة، مؤكدًا أن الاتحاد مطالب بالتحرك بسرعة لسد هذه الثغرة الأمنية الخطيرة. وأضاف أن الهدف هو بناء منظومة متكاملة من الإجراءات الدفاعية الفعالة قبل أن تتفاقم التهديدات وتتكرر الحوادث.
فكرة ولدت في ليتوانيا وتبنتها أوروبا
تعود جذور مشروع “الجدار المضاد للطائرات المسيرة” إلى مايو 2023 حين طرحت وزيرة الداخلية الليتوانية آنذاك، أغنه بيلوتايت، مقترحًا لتعزيز حماية الحدود الشرقية لحلف الناتو. وفي مايو 2024، انضمت ست دول أعضاء بالحلف، بينها دول البلطيق الثلاث إضافة إلى بولندا والنرويج وفنلندا، لتشكيل تحالف لدعم المبادرة. ورغم أن مشروعًا مشتركًا بين إستونيا وليتوانيا قد رُفض تمويله في ربيع هذا العام، إلا أن التطورات الأخيرة دفعت مؤسسات الاتحاد الأوروبي إلى إعادة النظر بجدية في التمويل والتنفيذ. هذا التحول يعكس شعورًا متناميًا بأن المسألة لم تعد خيارًا بل ضرورة استراتيجية لحماية القارة.
من بولندا إلى بروكسل.. التحول في الموقف الأوروبي
الانتهاك الأخير للأجواء البولندية عبر دخول نحو عشرين طائرة مسيرة روسية في 10 سبتمبر كان نقطة تحول في الموقف الأوروبي. فقد استغلت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين خطاب “حال الاتحاد” للإعلان عن التزام واضح بإقامة جدار مضاد للطائرات المسيرة. وأكدت أن حماية حدود الاتحاد الـ27 لم تعد تحتمل التأجيل. هذه الرسالة السياسية القوية وضعت المشروع على رأس أولويات الدفاع الأوروبي، خاصة مع تصاعد الانتقادات بشأن بطء الاستجابة الأوروبية للتهديدات الأمنية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا.
التكنولوجيا الأوكرانية عنصر محوري
كشف المفوض الأوروبي للدفاع أن أوكرانيا ستكون شريكًا أساسيًا في المشروع الجديد نظرًا لخبرتها الواسعة في مجال الطائرات المسيرة. وأعلنت فون دير لاين سابقًا عن تخصيص حزمة شراكة بقيمة 6 مليارات يورو مع كييف لدعم هذا القطاع الحاسم. وأوضح كوبيليوس أن أوكرانيا أبدت استعدادًا لمشاركة خبراتها وتكنولوجيتها مع الاتحاد الأوروبي، وهو ما قد يسرع وتيرة التنفيذ. هذه الخطوة تعكس إدراكًا أوروبيًا لأهمية الاستفادة من التجربة الأوكرانية التي واجهت لسنوات هجمات مكثفة بالطائرات المسيرة الروسية، ما جعلها من الدول الرائدة في تطوير أساليب التصدي لهذا النوع من التهديدات.
مكونات الجدار وآفاق التنفيذ
ورغم غياب تفاصيل دقيقة عن شكل “الجدار المضاد للطائرات المسيرة”، إلا أن المؤشرات الأولية تشير إلى أنه سيعتمد على مزيج من الرادارات وأجهزة الاستشعار وأنظمة التشويش والأسلحة المخصصة لاعتراض الطائرات المسيرة. ووفق تقديرات أولية، فإن المشروع قد يصبح واقعًا خلال عام واحد فقط، رغم تحذيرات كوبيليوس من أن التوقيت لا يزال مبكرًا لتحديد موعد نهائي أو كلفة إجمالية. هذه الخطوة، إذا تحققت، قد تعزز ثقة المواطنين الأوروبيين بقدرة الاتحاد على حمايتهم وتبعث برسالة ردع قوية إلى موسكو بشأن حدود ما يمكن أن تقبله أوروبا.
تهديد متصاعد عبر الحدود الشرقية
لم يكن خرق الأجواء البولندية الحادث الوحيد في الآونة الأخيرة، إذ رصدت طائرات مسيرة روسية فوق أجواء رومانيا في طريقها إلى استهداف مواقع داخل أوكرانيا. هذه الحوادث تكشف هشاشة المجال الجوي الأوروبي أمام الهجمات غير التقليدية، وتزيد الضغط على بروكسل لتقديم استجابة عملية وسريعة. ويؤكد محللون أن الاتحاد الأوروبي، الذي طالما ركز على العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية ضد روسيا، بات مطالبًا الآن بإجراءات دفاعية ملموسة على الأرض لحماية مواطنيه من التهديدات المباشرة والمتزايدة.
نحو استراتيجية أوروبية موحدة
إن النقاش الدائر حول “الجدار المضاد للطائرات المسيرة” يعكس إدراكًا جماعيًا داخل الاتحاد الأوروبي لضرورة التحرك نحو استراتيجية دفاعية موحدة. فالتحديات الأمنية المتسارعة لم تعد تحتمل الحلول الفردية، بل تفرض تعاونًا عابرًا للحدود وتكاملًا في القدرات العسكرية والتكنولوجية. إذا نجح المشروع في الخروج إلى النور، فإنه قد يمثل بداية تحول حقيقي في منظومة الدفاع الأوروبية، وربما يفتح الباب أمام مشاريع أخرى تعزز استقلالية الاتحاد الاستراتيجية في مواجهة التهديدات المستقبلية.