الصين وروسيا تنسقان في أعماق البحار: هل على أمريكا القلق؟

في خطوة جديدة تعكس عمق الشراكة العسكرية بين بكين وموسكو، أجرت الصين وروسيا أول دورية بحرية مشتركة باستخدام غواصات، في إشارة واضحة إلى أن تعاونهما العسكري يزداد رسوخًا. ورغم أن العملية لم تشمل سوى غواصتين، فإن الرسالة الموجهة للولايات المتحدة وحلفائها بدت قوية: العالم قد يشهد اصطفافًا جديدًا يقوده التنسيق العسكري بين القوتين الآسيويتين. هذه المناورات، التي تُصوَّر كاختبار للثقة الاستراتيجية المتبادلة، أثارت نقاشًا واسعًا في الأوساط العسكرية الغربية، حيث اعتُبرت بمثابة تحذير من أن الصين وروسيا لا تكتفيان بتنسيق سياسي أو اقتصادي، بل تنقلان شراكتهما إلى مجال حساس يشمل التكنولوجيا المتقدمة والاستعدادات الدفاعية.
رسالة ردع للغرب
يرى خبراء عسكريون أن هذه الدورية تمثل قبل كل شيء رسالة ردع موجهة للغرب. فبحسب الخبير الأمريكي لايل غولدستين، من الصعب تخيل أن بكين وموسكو ستخوضان حربًا متزامنة ضد الولايات المتحدة وحلفائها، لكن مجرد خلق هذا الانطباع يمنحهما ورقة قوة إضافية. الإعلام الصيني وصف الخطوة بأنها علامة على “ثقة استراتيجية رفيعة المستوى” بين البلدين، مشيرًا إلى أن التنسيق بين الغواصات يتطلب خبرات تقنية متقدمة واتصالات دقيقة. ورغم أن العدد محدود، فإن القيمة الرمزية لهذه الخطوة تفوق بكثير حجمها العسكري الفعلي، إذ تؤكد أن التنسيق لم يعد محصورًا في المناورات الجوية أو البحرية التقليدية.
تفاصيل الدورية المشتركة
الدورية شملت الغواصة الروسية “فولخوف” ونظيرتها الصينية من طراز “كيلو”، إضافة إلى مرافقة بحرية روسية تمثلت في الفرقاطة “غرومكي” وسفينة إنقاذ للغواصات. جرت العمليات خلال أغسطس في بحر الصين الشرقي وبحر اليابان، وجاءت بعد مناورات مضادة للغواصات شاركت فيها سفن وطائرات من البلدين. وفق صحيفة “إزفستيا” الروسية، قطعت الغواصة الروسية نحو 3200 كيلومتر قبل وصولها إلى ميناء فلاديفوستوك. ويشير الخبراء إلى أن اختيار غواصات “كيلو” لم يكن عشوائيًا، فهي معروفة بقدرتها على العمل بهدوء، إضافة إلى أن الصين استوردت هذا الطراز من روسيا، ما يجعل التنسيق بينهما أكثر سلاسة.
غياب الغواصات النووية
المثير للاهتمام أن موسكو وبكين امتنعتا عن إشراك غواصاتهما النووية في هذه المناورات. ويُرجَّح أن يكون السبب حرص الطرفين على عدم كشف القدرات الأكثر تقدمًا أمام بعضهما البعض، خاصة أن التحالف بينهما لا يخلو من الحذر الاستراتيجي. غولدستين أوضح أن التعاون بين البلدين في مجال الغواصات النووية ما زال غائبًا، على الأقل بشكل معلن. ويشير مؤرخون عسكريون إلى أن العلاقات بين الصين وروسيا لم تكن دائمًا ودية، إذ شهدت ستينيات القرن الماضي صدامات حدودية كادت تتطور إلى مواجهة نووية. لذلك، فإن مستوى الانفتاح في هذه المرحلة يبدو محسوبًا بدقة.
تحالف محدود بحدود التاريخ
ورغم ما يظهر من تقارب، لا يزال التحالف بين بكين وموسكو محكومًا بالبراغماتية أكثر من كونه شراكة عاطفية. الخبير ريتشارد موس من الكلية البحرية الأمريكية يؤكد أن الطرفين لم يتبادلا أسرارًا عسكرية لم يعرفها أحدهما عن الآخر مسبقًا. ويرى أن هذا التعاون لا يصل إلى مستوى التكامل العسكري الذي يميز علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها في الناتو. فالتاريخ الطويل من التوترات بين القوتين يفرض حدودًا على الثقة المتبادلة. ومع ذلك، فإن مجرد انتظام المناورات بينهما يمثل مؤشرًا واضحًا على تطور في مستوى الشراكة، ولو ضمن إطار محدد.
تعاون متنامٍ ومتعدد الأبعاد
هذه المناورة البحرية ليست سوى حلقة في سلسلة طويلة من التعاون العسكري الصيني الروسي. فمنذ عام 2019، نفذ البلدان دوريات جوية مشتركة، كان أبرزها مرور قاذفات استراتيجية فوق ألاسكا عام 2024. وفي 2021، بدأت الدوريات السنوية المشتركة للسفن السطحية، إلى جانب تدريبات برية كبرى مثل مناورات “زاباد/إنتراكشن”. ويقول غولدستين إن تكرار هذه الأنشطة يعكس نمطًا ثابتًا يتمثل في عمليات صغيرة الحجم، لكنها تحمل دائمًا بعدًا جديدًا سواء من الناحية الجغرافية أو التقنية. الرسالة إذن واضحة: الشراكة العسكرية آخذة في التوسع بشكل تدريجي ومدروس.
هل تستهدف المناورة تحالف “أوكوس”؟
من بين التفسيرات المطروحة لهذه الخطوة أنها قد تكون ردًا غير مباشر على تحالف “أوكوس”، الذي يضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، ويهدف إلى تزويد كانبيرا بغواصات نووية متطورة. يؤكد غولدستين أن الاستراتيجيين الصينيين يتابعون هذا المشروع عن كثب، ويرونه تهديدًا مباشرًا لمصالح بلادهم. ومن ثم، فإن تعزيز التعاون البحري مع روسيا يبدو ردًا منطقيًا. وإذا ما قررت بكين وموسكو مستقبلاً إشراك غواصاتهما النووية في مناورات مشتركة، فسيكون ذلك تطورًا مقلقًا، لأنه سيفتح الباب أمام تبادل تكنولوجيا حساسة تخص أخطر أسلحة الردع.
حدود الشراكة العسكرية
رغم الطابع الاستفزازي لهذه التحركات، يحذر خبراء من المبالغة في تقديرها. فمستويات التعاون بين الصين وروسيا لا تزال بعيدة عن التكامل العسكري الكامل، وكل طرف يدرك أن مصالحه الاستراتيجية ليست متطابقة دومًا. غولدستين يشير إلى أن الذاكرة التاريخية للصراع الصيني السوفيتي لا تزال تلعب دورًا في ضبط إيقاع العلاقة، ما يمنع الطرفين من الارتماء كليًا في أحضان بعضهما البعض. ومع ذلك، فإن هذه المناورات المستمرة تشكل تحديًا متزايدًا للولايات المتحدة وحلفائها، وتؤكد أن التوازنات في منطقة آسيا والمحيط الهادئ تتغير بوتيرة متسارعة.