المعركة على إرث توني بلير: اليمين البريطاني يسعى لتفكيك “بريطانيا البليرية”

بعد نصف قرن على فوز مارغريت تاتشر بقيادة حزب المحافظين، تعود بريطانيا إلى صراعها الجوهري حول هويتها السياسية. فبينما اعتبرت تاتشر أن إرغام حزب العمال على تبنّي أفكارها هو أكبر إنجازاتها، يرى أنصار اليمين الجديد اليوم أن تلك اللحظة كانت بداية انحراف البلاد عن مسارها “الطبيعي”. واليوم، يقود المحافظون الحاليون وحزب “الإصلاح البريطاني” بزعامة نايجل فاراج حملة لتفكيك إرث توني بلير وحقبة “العمال الجدد”، في محاولة لإعادة صياغة الدولة وفق رؤية محافظة متشددة تتجاوز حدود الاقتصاد إلى القيم والمجتمع.
من التوافق إلى الصدام الأيديولوجي
امتد عهد بلير على أنه استمرار ناعم لسياسات تاتشر، لكنه أضفى عليها طابعًا اجتماعيًا واضحًا. فبينما حافظ على نهج السوق الحر، وسّع الاستثمار في الخدمات العامة وقلّص الفقر، مما منحه شعبية كبيرة في الداخل والخارج. إلا أن اليمين الجديد يرى في تلك الحقبة نقطة تحول أيديولوجي خطيرة؛ إذ رسخت الليبرالية الاجتماعية، وعمّقت دور دولة الرفاه، وسلبت من الحكومة المركزية صلاحياتها، لتفتح الباب أمام ما يُعرف اليوم بـ”ثقافة الووك” التي يعتبرها المحافظون الجدد تهديدًا لهوية بريطانيا التقليدية.
قوانين تحت النار
تسعى الخطط الجديدة لإلغاء أو تعديل مجموعة من أبرز تشريعات “العمال الجدد“، منها قانون التغير المناخي، وقانون الإصلاح الدستوري الذي أسس المحكمة العليا، وتشريعات المساواة وجرائم الكراهية. حتى استقلال بنك إنجلترا، أحد أهم إنجازات بلير الاقتصادية، أصبح محل مراجعة. ويرى محللون أن هذا التوجه يعكس عودة النزعة المركزية والشعبوية التي تتحدى المؤسسات المستقلة. كما تلوح مراجعة واسعة للامركزية في اسكتلندا وويلز، ما يثير قلقًا من أن يؤدي هذا المسار إلى تقويض وحدة المملكة المتحدة ذاتها.
نهاية الحلم الليبرالي؟
في نظر اليمين الجديد، كانت سياسات بلير الاجتماعية والتعليمية بداية لانحدار بطيء في الإنتاجية والقيم الوطنية. ويحمّله البعض مسؤولية موجات الهجرة الأوروبية الشرقية وتضخم نظام الإعانات. لكن منتقدي هذا الطرح يرون أن الهجوم المحافظ يتجاهل إنجازات “العمال الجدد” الذين قدّموا نموذجًا وسطيًا ناجحًا بين الرأسمالية الحرة والتدخل الحكومي. فبلير سعى لتحقيق توازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، وهو توازن يبدو مفقودًا اليوم وسط التوجهات اليمينية الحادة التي تهيمن على المشهد السياسي البريطاني.
يمين ضد يمين: المحافظون في مواجهة أنفسهم
المعركة الحالية لا تقتصر على حزب العمال، بل تدور داخل معسكر اليمين نفسه. فـ”حزب الإصلاح” يسعى لتدمير المحافظين كخيار انتخابي، بينما يحاول المحافظون استعادة ثقة الطبقة الوسطى التي جذبتها في الماضي سياسات بلير الحداثية. الانقسام الأيديولوجي داخل اليمين يجعل من الصعب تحديد هوية التيار الصاعد، لكن المؤكد أن بريطانيا تعيش لحظة إعادة تعريف عميقة، تتجاوز حدود الأحزاب إلى إعادة النظر في علاقتها بذاتها وبماضيها السياسي.
هوية بريطانيا بين الليبرالية والمحافظة
مهما تعددت التيارات، تبقى بريطانيا ساحة مفتوحة لصراع الأفكار بين الدولة الليبرالية والرؤية المحافظة الصاعدة. وبعد ربع قرن على عهد بلير، تبدو البلاد على أعتاب مراجعة كبرى لموقعها في العالم ولمفهومها للحرية والهوية الوطنية. فالمعركة لم تعد حول توني بلير وحده، بل حول جوهر الدولة البريطانية — بين من يريد استعادة “القيم الأصلية” ومن يدافع عن بريطانيا المنفتحة التي أرساها “العمال الجدد”.



