حرب بلا رصاص.. الصين تتسلح بالذكاء الاصطناعي لتحدي أمريكا

بينما تزداد الدعوات في واشنطن وبكين للاستعداد لصراع محتمل، تتخذ المنافسة بين القوتين منحى جديدًا لا يعتمد على الصواريخ والدبابات، بل على الخوارزميات والبيانات. تسعى الصين إلى تحويل الذكاء الاصطناعي إلى سلاح استراتيجي يمكنه موازنة الفجوة العسكرية مع الولايات المتحدة، من خلال تطوير تقنيات محلية مثل “ديب سيك” والروبوتات الذكية وأنظمة القيادة الذاتية.
هذا التحول لا يهدف فقط إلى تحديث الجيش الصيني، بل إلى تقليص الاعتماد على التكنولوجيا الغربية التي تخضع لقيود متزايدة. ومع ظهور مركبات ذاتية القيادة وطائرات مسيّرة وأنظمة دعم قرار لحظية، يبدو أن بكين تمضي بخطى متسارعة نحو “حرب بلا رصاص”، تستخدم فيها العقول الإلكترونية بدلًا من الأسلحة التقليدية. التقارير الأخيرة تكشف أن هذه الطفرة ليست مجرد دعاية، بل مشروع متكامل يجمع بين الجامعات، الشركات، والمؤسسات العسكرية في إطار رؤية استراتيجية واضحة.
الذكاء الاصطناعي في قلب العقيدة العسكرية
تُظهر مراجعة حديثة لبراءات الاختراع وسجلات المشتريات أن الجيش الصيني يضخ استثمارات ضخمة لتسخير الذكاء الاصطناعي في ميادين القتال المستقبلية، خاصة في مجالات التعرف التلقائي على الأهداف وتحليل البيانات في الوقت الحقيقي. وبحسب صحيفة “ساوث تشاينا مورنينج بوست”، فإن هذه الجهود تسير في مسار موازٍ لما تطوره واشنطن في برامج الأسلحة الذكية. وتعد شركة “ديب سيك” نموذجًا واضحًا لتوجه بكين نحو الاعتماد على قدرات محلية، حيث تستخدم نماذجها في عدد متزايد من المشاريع العسكرية. وعلى الرغم من السرية التي تحيط بالعديد من هذه الأنظمة، فإن المؤشرات تدل على أن الصين باتت تملك بنية تحتية تكنولوجية قادرة على تحويل الذكاء الاصطناعي إلى عنصر رئيسي في استراتيجيتها الدفاعية طويلة المدى.
التكنولوجيا الأمريكية في المشهد الصيني
على الرغم من التوجه نحو “الاستقلال التقني”، تُظهر بعض السجلات أن الجيش الصيني لا يزال يستخدم شرائح أمريكية من إنتاج شركة “إنفيديا”، مثل طرازات A100 وH100 التي تخضع لقيود تصدير منذ عام 2022. هذه المعالجات تُستخدم في بعض المشاريع البحثية رغم حظرها، ما يثير تساؤلات حول مصدرها وكيف وصلت إلى الصين. وتشير وثائق براءات اختراع حديثة إلى استمرار وجود هذه الشرائح في أبحاث دفاعية، لكن المتحدث باسم “إنفيديا” أوضح أن استخدام كميات محدودة من منتجات قديمة لا يشكل خطرًا أمنيًا كبيرًا، لأن فعاليتها محدودة دون تحديثات الشركة الأصلية. هذا الواقع يكشف عن مرحلة انتقالية معقدة في الصناعة الدفاعية الصينية، تجمع بين التكنولوجيا الأجنبية القديمة والتقنيات المحلية الجديدة في محاولة لتحقيق التوازن بين الأداء والاستقلال.
السيادة الخوارزمية.. هدف الصين المقبل
تعمل بكين وفق خطة استراتيجية تُعرف باسم “السيادة الخوارزمية”، وتهدف إلى تطوير منظومة عسكرية تعتمد كليًا على تقنيات محلية، خاصة بعد تزايد القيود الأمريكية على تصدير الشرائح المتقدمة. تقارير “Jamestown Foundation” الأمريكية تشير إلى أن الجيش الصيني بدأ بالفعل في استخدام معالجات “هواوي أسيند” في بعض الأنظمة الحساسة. كما أظهرت مراجعات حكومية طلبًا متزايدًا على منتجات “هواوي” لتقليل الاعتماد على المكونات الأمريكية. هذه الخطوة لا تعكس فقط التوجه نحو الاكتفاء الذاتي، بل تمثل أيضًا تحديًا مباشرًا لهيمنة الشركات الغربية في مجال الذكاء الاصطناعي. ورغم غياب تأكيد رسمي من “هواوي” أو وزارة الدفاع الصينية، فإن وتيرة الأبحاث والاختراعات الجديدة توحي بأن الصين باتت تقترب من بناء منظومة رقمية عسكرية متكاملة، تدار فيها البيانات والخوارزميات محليًا بالكامل.
“ديب سيك” تتصدر السباق
بحسب الوثائق المتاحة، أصبحت “ديب سيك” الشركة الأكثر استخدامًا داخل الجيش الصيني عام 2025، إذ ورد ذكرها في نحو 12 مناقصة عسكرية مقابل واحدة فقط لنموذج “كيوين” من “علي بابا”. هذا التفوق يعكس ثقة المؤسسات العسكرية الصينية في تقنيات الشركة، التي طورت نماذج ذكاء اصطناعي قادرة على تحليل مئات السيناريوهات خلال ثوانٍ. في المقابل، اتهمت واشنطن “ديب سيك” بتقديم دعم مباشر للعمليات العسكرية والاستخباراتية لبكين، مؤكدة أنها ستواصل حماية التكنولوجيا الحساسة من الوصول إلى “الخصوم المحتملين”. وتشير هذه الاتهامات إلى اشتداد التنافس الأمريكي–الصيني في ميدان الذكاء الاصطناعي الدفاعي، حيث تتسابق الدولتان نحو امتلاك القدرة على اتخاذ القرار العسكري الآلي بدقة تفوق التدخل البشري.
الروبوتات والطائرات المسيّرة.. ملامح الحرب القادمة
إلى جانب البرمجيات، تستثمر الصين في تطوير روبوتات قتالية قادرة على التحرك الذاتي في الميدان. فبحسب صحيفة “ساوث تشاينا”، طرح الجيش الصيني مناقصة لتطوير كلاب روبوتية وأسراب طائرات مسيّرة تعمل بشكل جماعي على كشف الألغام وتتبع الأهداف. ورغم عدم وضوح ما إذا كان المشروع دخل الخدمة، فإن صورًا سابقة أظهرت استخدام روبوتات مسلحة من شركة “يوني تري” في تدريبات عسكرية. كما كشفت أبحاث من جامعة “شيآن للتكنولوجيا” عن نظام يعتمد على “ديب سيك” حلّل أكثر من 10 آلاف سيناريو ميداني في 48 ثانية فقط، مقارنة بـ48 ساعة من التخطيط البشري. هذه التطورات تؤكد أن ساحة المعركة المستقبلية لن تُدار بالجنود فقط، بل عبر خوارزميات قادرة على اتخاذ القرار القتالي لحظة بلحظة.
عقول رقمية بدل الصواريخ: ملامح صراع المستقبل
في ظل تسارع هذا السباق التكنولوجي، يبدو أن الحرب المقبلة بين واشنطن وبكين لن تُحسم بالصواريخ، بل بالذكاء الاصطناعي والقدرة على السيطرة على البيانات. فالصراع القادم يدور حول من يملك “العقل الرقمي” الأكثر كفاءة، لا من يملك أكبر ترسانة. وبينما تسعى أمريكا للحفاظ على تفوقها عبر التحالفات التقنية، تراهن الصين على الاكتفاء الذاتي و”السيادة الخوارزمية” كطريق نحو مركز القوة العالمي. وفي عالم تتحول فيه الخوارزميات إلى جنود رقمية، قد تكون الحرب القادمة بلا رصاص، لكنها لن تقل شراسة عن أي مواجهة شهدها التاريخ الحديث.



