
✍️ بقلم: سلطان الحطاب
بدأ الإمبراطور الروماني هادريان رحلته من مصر، التي كانت آنذاك تحت الحكم الروماني، حيث زارها لأول مرة لتأسيس أول مدينة رومانية تخليدًا لذكرى صديقه أنتونيوس، في موقع أصبح يُعرف حاليًا باسم مدينة الشيخ عبادة في صعيد مصر. ومن هناك، اتجه إلى جرش، في محاولة للرد على عدوان الفرس على تدمر، التي دُمّرت آنذاك بفعل الغزو الفارسي.
قوس هادريان: شاهدة على التحية الإمبراطورية
عندما وصل نبأ زيارته إلى أهالي جرش، بادروا إلى بناء قوس النصر الذي لا يزال قائمًا حتى اليوم، بارتفاع يصل إلى 11 مترًا، يلفت الأنظار بزخرفته والتيجانه المزخرفة من الأعلى والأسفل، ويُعرف اليوم باسم قوس هادريان أو “بوابة جرش”. وكانت زيارته تلك شتاء عام 129 ميلاديًا، وقد حظي باستقبال مهيب يعكس المكانة الثقافية والتاريخية للمدينة.
جرش: من تأسيس بومبي إلى عاصمة الثقافة
تعود بدايات جرش إلى عام 63 قبل الميلاد، عندما أسسها الإمبراطور بومبي، الذي صرّح حينها بأنها ليست مجرد مدينة رومانية، بل “عاصمة الدنيا للثقافة”. تحوّلت المدينة إلى مقصد للفنانين والمفكرين، وكان من تقاليدها أن يُقام لكل شاعر أو فنان عمود بين أعمدتها، حتى لُقبت بـ”مدينة الألف عمود”.
وفي استمرار لتلك الرسالة، يقام مهرجان جرش سنويًا، وها هو يعود عام 2025 بنسخته التاسعة والثلاثين، بقيادة مديره القدير أيمن سماوي، تحت شعار: “هنا الأردن.. ومجد مستمر”، من 24 تموز حتى 2 آب.
هادريان يتحدث من جرش: حكمة ضد الحروب والكراهية
وصل الإمبراطور إلى المدينة وسط احتفال نسائي وجوقات موسيقية وفرسان، وألقى كلمة أمام الحشود قال فيها:
“لا تُكسب المعارك بالكراهية. الغضب قد يمنحك شجاعة، لكنه يضعفك أيضًا. ينتهي بك الحال متعثرًا”.
إقرأ ايضَا:
مهرجان جرش 39 يحتفي بالثقافة والإبداع العربي تحت شعار الأردن
ثم أضاف حكمته الشهيرة:
“الرجال مقبرة مهجورة وسط موتى توقف الناس عن الاعتزاز بهم. كل حزن دائم هو نسخة من إهمالهم”.
واختتم: “طوبة طوبة… يرقد هنا موتى لم يعودوا يُقدّرون”.
الصراع الفارسي الروماني في ذاكرة القرآن
أشار هادريان في كلمته إلى نيته التوجه نحو تدمر لتحريرها من الفرس، وهو الصراع الذي ورد ذكره في القرآن الكريم:
“غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ”.
وقد دعم المسلمون لاحقًا الروم في هذا الصراع، خصوصًا في اليمن، حين أحرق اليهود، المتحالفون مع الفرس، المسيحيين، وهو الحدث الذي وثّقه القرآن في سورة البروج:
“قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ…”.
جرش في عهد الأمويين: ازدهار وفاكهة للخليفة
في العصر الأموي، ازدادت أهمية جرش، واهتم بها الخلفاء، وكان الخليفة عبد الملك بن مروان يُفضل رمانها ويطلبه خصيصًا ليهديه لكبار قادة عصره. كما ذُكر نهر الذهب الذي ينبع منها في كتابات تلك الحقبة.
وقد أنشأ الأمويون فيها المسجد الأموي، وامتد تأثيرهم إلى فلسطين، حيث بنى هشام بن عبد الملك قصره الشهير في أريحا، فيما أسس مسلمة بن عبد الملك مدينة الرملة وجعلها عاصمة لفلسطين.
مهرجان جرش: شعلة ثقافية لا تنطفئ
أُطلق مهرجان جرش لأول مرة عام 1981، وتم تجديد انطلاقته على يد الملكة رانيا العبدالله. أما نسخة 2025، فستشهد أكثر من 235 فعالية تشمل حفلات غنائية، عروضًا مسرحية، أمسيات شعرية، ومبادرات ثقافية تهدف لترسيخ صورة الأردن كمنارة للفكر والفن والإبداع في العالم العربي.
زلزال جرش وقيامتها من الرماد
رغم زلزال عام 749 الذي دمّر العديد من معالم المدينة، ووقوع عدة زلازل لاحقة، فإن جرش صمدت. لم تنكسر، بل استمرت في أداء رسالتها الثقافية، حاملةً ذاكرة حضارات عريقة، وواصلة ماضيها بحاضرها المتجدد.
من الشراكسة إلى مخيم غزة: التنوع السكاني
استوطن الشراكسة المدينة عام 1887 بتوجيه من السلطان العثماني، كما قدم إليها الشوام والأرمن، ما أضاف غنى ديموغرافيًا وثقافيًا. واليوم، يبلغ عدد سكان محافظة جرش نحو 237 ألف نسمة، منهم 160 ألفًا في المدينة نفسها، وتحتضن كذلك مخيم غزة الذي يسكنه 60 ألف لاجئ منذ نكسة عام 1967.
جرش اليوم: تراث يتنفس عبر وزارة الثقافة والمهرجان
أصبحت جرش اليوم في عهدة وزارة الثقافة الأردنية، وهي تحتضن أشهر مهرجان فني وثقافي عربي، بقيادة أيمن سماوي وفريقه، ليحملوا مشعل الرسالة إلى العالم، ويؤكدوا أن هذه الأرض ما زالت تُنبت الفن، وتقاوم الخراب، وتنشر الجمال، من مدينة أسست لتكون عاصمة العالم الثقافية، وما تزال تؤدي دورها منذ آلاف السنين.