حين لا تكفي الكلمات: دروس الشعارات السياسية في زمن التغيير السريع
"الشعارات السياسية: الوعد والإنجاز

وعد التغيير وحده لم يعد كافيًا. ففي عالم السياسة المعاصر، حيث تتنازع الحملات الانتخابية على انتباه شعوب مرهقة ومتصلة دومًا، تبدو الشعارات السياسية في ظاهرها سلاحًا بسيطًا، لكنها تخفي وراءها طبقات من الدلالات والمآزق. ما بين “نحو التغيير” في بريطانيا و”لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا” في الولايات المتحدة، تتجلى المفارقة: كلاهما فاز، لكن أحدهما تحوّل إلى ظاهرة، والآخر إلى عبء.
تشير الخبرات المتراكمة في الحملات السياسية الحديثة إلى أن الشعارات لم تعد مجرد أدوات تعبوية، بل اختبارات فورية للمصداقية والقدرة على الإنجاز. الكاتب والمستشار السياسي كريس بروني-لو، في تحليله لتاريخ الشعارات السياسية، يذهب إلى ما هو أبعد من البلاغة، ليكشف عن العوامل التي تجعل بعض الشعارات محفّزة للجماهير، بينما يتحوّل بعضها الآخر إلى رماد في مهب الواقع السياسي. المفارقة أن الشعارات التي قادت حركات تحررية وتغييرات كبرى باتت اليوم تُختصر في وعود فارغة، يستهلكها الغضب الجماهيري قبل أن تكتمل دورتها السياسية. إن كلمات مثل “التغيير” و”القوة” و”الأفضل” لا تزال تملك قوة رمزية، لكنها تحتاج إلى جسد سياسي يُترجمها سريعًا إلى أفعال.
ثماني كلمات غيّرت وجه السياسة
يكشف الكاتب أن معظم الشعارات السياسية الفعالة طوال القرن الماضي تمحورت حول ثماني كلمات فقط: الشعب، التغيير، الديمقراطية، القوة، معًا، جديد، الوقت، الأفضل – مع إضافة “العظمة” في السنوات الأخيرة. ورغم بساطتها، أثبتت هذه الكلمات قدرة خارقة على التأثير العاطفي وخلق هوية جامعة في أزمنة التحولات.
السياق أولًا: لا توجد وصفة سحرية
الشعار ذاته قد يؤدي إلى نتائج متناقضة في سياقات مختلفة. فـ”التغيير” الذي أوصل توني بلير إلى السلطة عام 1997، لم يُحدث نفس الأثر مع كير ستارمر في بريطانيا عام 2024. بينما “لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا”، الذي استُهلك مرارًا منذ عهد تشرشل، وجد في ترامب من يُجسده بأسلوب مباشر وسريع.
من النخبة إلى الجماهير: كيف وُلدت الشعارات؟
بدأت رحلة الشعارات الحديثة مع التحول نحو حق الاقتراع الشامل. لم يعد الخطاب موجهًا إلى الصفوة، بل إلى الملايين. ومع توسّع الديمقراطية، أصبحت الحاجة ماسة إلى شعارات بسيطة وسهلة الحفظ. وهكذا تحوّلت السياسة من أطروحات مطولة إلى عبارات مقتضبة ذات وقع عاطفي مباشر.
كل جيل ووسيلته: الإعلام يقلّص الكلمات
كل قفزة إعلامية فرضت على السياسيين تبسيط رسائلهم أكثر. الراديو فضّل الجمل الرنانة، والتلفزيون اقتصر على “اللقطات”، ثم جاءت مواقع التواصل الاجتماعي، فاختزلت السياسة إلى هاشتاغات. في هذا السياق، لم تعد البرامج السياسية مطلوبة بقدر المطلوبات اللغوية المختصرة.
عصر الغضب الجماهيري: من التغيير الناعم إلى الثورة السريعة
الناخبون اليوم، الذين عاشوا عقودًا من الوعود الغامضة، أصبحوا أكثر تطلبًا وسرعة في إصدار الأحكام. “التغيير” لم يعد وعدًا، بل عقدًا اجتماعيًا يتطلب نتائج فورية. هذا ما واجهته حكومة حزب العمال البريطاني، التي اكتشفت أن الناخبين لا يمنحون فترة سماح، بل يطالبون بالتحولات فورًا.
ترامب ومسرحة الشعار: عندما يتحول الوعد إلى عرض
استطاع ترامب تحويل شعاره إلى ممارسة مباشرة على الأرض. لم ينتظر انعقاد الكونغرس، بل وقّع أوامر تنفيذية أمام الكاميرات. قد يُشبهه البعض بـ”الوجبة السياسية السريعة”، لكنه استطاع بذلك أن يوصل رسالة: أنا أفي بوعدي فورًا. هذا النوع من الأداء أصبح تحديًا لأي سياسي يرفع شعار “التغيير”.
شعارات بلا مضمون: كيف خانت السياسة لغتها؟
الكثير من الشعارات الحديثة، خاصة في التسعينيات وما بعدها، لجأت إلى عبارات شديدة العمومية. من “حياة جديدة لبريطانيا” إلى “أولوية للشعب”، صيغت لتُرضي الجميع وتترك مجالًا واسعًا للمناورة السياسية. لكن مع الوقت، تحوّلت إلى رموز فارغة دفعت بالمواطنين إلى أحضان الشعبوية.
الذكاء الاصطناعي والشعارات المُفرطة في الخصوصية
في زمن الذكاء الاصطناعي، أصبحت الشعارات تُفصّل وفق الأفراد. كل ناخب يرى نسخة مختلفة من الشعار ذاته. قد يزيد ذلك من التأثير الفردي، لكنه يهدد وحدة الرسالة السياسية ويُعمّق الانقسام. المفارقة أن الكلمات التي كانت تُستخدم لـ”توحيد” الشعوب، باتت أداة لـ”تفريقهم”.
الدرس الأخير: الشعار وسيلة، لا غاية
في النهاية، لا يوجد شعار ينجح بذاته. الكلمات لا تصنع الإنجاز السياسي، بل تعلنه. ومتى ما فشلت السياسة في مواكبة شعاراتها، سقطت في عين الناخب. الدرس من التاريخ واضح: لا تسرف في الوعود التي لا يمكنك تحقيقها، ولا ترفع شعارًا لا تنوي ترجمته فورًا إلى فعل.