الوكالات

احتجاجات تختبر ديمقراطية إندونيسيا

تشهد إندونيسيا لحظة فارقة في تجربتها الديمقراطية، بعدما تحولت حادثة مأساوية إلى شرارة احتجاجات واسعة تهدد استقرار البلاد وتضع الرئيس الجديد برابوو سوبيانتو أمام أول اختبار سياسي جدي منذ انتخابه.

وفاة شاب يعمل كسائق دراجة نارية، بعد أن دهسته مدرعة شرطة خلال مظاهرة أمام البرلمان، فجّرت موجة غضب اجتاحت المدن وأعادت إلى السطح أسئلة أعمق حول العدالة الاجتماعية، الاقتصاد المتعثر، ومستقبل التعددية السياسية في رابع أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان.

 

من حادث فردي إلى احتجاج وطني

 

انتشار مقطع فيديو يوثق الحادثة على وسائل التواصل الاجتماعي أثار صدمة عارمة. في اليوم التالي، رافق الآلاف من سائقي الدراجات الخضراء جنازة الشاب، بينما امتلأت الشوارع بالمتظاهرين المطالبين بمحاسبة المسؤولين وإصلاحات سياسية واقتصادية. ورغم دعوات قادة الحراك للهدوء، اندلعت أعمال عنف شملت إحراق مبانٍ حكومية ونهب منازل مسؤولين كبار.

 

برابوو بين ضبط الأمن وامتصاص الغضب

 

الرئيس برابوو، الجنرال السابق ذو السمعة الصلبة تجاه المعارضة، سارع للتأكيد على “حق التظاهر السلمي”، لكنه في الوقت نفسه وصف بعض الاحتجاجات بأنها تميل إلى “الإرهاب والتحريض”، وأمر الجيش والشرطة بالتصدي الحازم للمشاغبين. ومع ذلك، قدّم وعودًا بمحاسبة الضباط المتورطين، وبوقف الامتيازات المبالغ فيها لأعضاء البرلمان مثل مخصصات السكن والسفر. غير أن هذه التنازلات بدت شكلية أمام جذور الأزمة الأعمق.

 

اقتصاد ينمو على الورق ويتعثر في الواقع

 

الأرقام الرسمية تعكس نموًا بنسبة 5.1% وتضخمًا منخفضًا، لكن الحياة اليومية تروي قصة مختلفة. أسعار المواد الأساسية، خصوصًا الأرز، قفزت بشكل حاد، في حين ارتفعت معدلات البطالة بين الخريجين الشباب، وارتفعت القروض المتعثرة للأسر إلى مستوى قياسي. كثيرون يرون أن وعود الحكومة لا تنسجم مع واقعهم الاقتصادي، خاصة بعد خفض الميزانية بنسبة 9% لصالح برامج يسيطر عليها الرئيس مباشرة، ما أدى إلى تسريح عمال وخفض التحويلات للمناطق، وإلى زيادة الضرائب المحلية.

 

ديمقراطية مهددة بالاحتواء

 

في الديمقراطيات الفاعلة، يمكن للمعارضة البرلمانية أن تمتص الغضب الشعبي عبر قنوات مؤسسية. لكن برابوو أعاد رسم الخريطة السياسية، إذ ضم جميع الأحزاب تقريبًا إلى تحالفه الحاكم، ولم يخفِ رغبته في جعل هذا الاحتكار دائمًا، مبررًا ذلك بأنه “يتماشى مع الثقافة الإندونيسية” أكثر من النظم التنافسية الغربية. هذه المقاربة تعيد للأذهان إرث الرئيس الأول سوكارنو، لكنها تثير مخاوف من تقويض التعددية السياسية.

اقرأ أيضاً

مركز السيطرة على الأمراض في أزمة: من هم كبار المسؤولين الذين استقالوا أو أُجبروا على المغادرة؟

بين الحذر والمغامرة

 

التاريخ الشخصي لبرابوو، المتهم بدور غامض في أحداث 1998 التي سبقت سقوط سوهارتو، يجعل البعض يخشى أن يستخدم الاضطرابات الحالية لتبرير مزيد من القبضة الأمنية. ومع ذلك، يشكك دبلوماسيون في لجوئه إلى العنف المباشر، معتبرين أن شعبويته تحتاج إلى شعبية، لا إلى قمع دموي. ما ستشهده الأسابيع المقبلة سيحدد ما إذا كانت إندونيسيا ستواصل مسارها الديمقراطي، أم تدخل مرحلة جديدة من السلطوية المقنّعة.

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى