حوادث وقضايا

وقت الشاشات للأطفال ليس كارثة: إليك كيف يمكن تحويله إلى فرصة تعليمية وصحية

وسط القلق المتزايد بشأن تأثير التكنولوجيا على الأطفال، أعلن وزير التكنولوجيا البريطاني بيتر كايل عن دراسة اقتراح لتحديد “حد أقصى” لساعات استخدام الأطفال لوسائل التواصل الاجتماعي، لا يتجاوز الساعتين يوميًا. ورغم أن هذا الإعلان جاء في توقيت حساس مع بداية العطلة الصيفية – حيث يقضي الأطفال وقتًا أطول على الشاشات – إلا أن الاقتراح بدا للكثيرين، ومنهم الكاتبة والأكاديمية الدكتورة كايتلين ريجير، سطحيًا وعتيق الطراز. فهل يكفي تقنين عدد الساعات لحماية أطفالنا؟ أم أن الأمر أكثر تعقيدًا ويتطلب فهمًا أعمق لطبيعة ما يُعرض على تلك الشاشات؟ هنا يبدأ الجدل.

نوعية المحتوى أهم من كميته

لسنوات طويلة، ركّزت الإرشادات التربوية الرقمية على “الوقت” الذي يقضيه الأطفال أمام الشاشات، باعتباره المؤشر الأهم لقياس التأثير السلبي. فقد أظهرت دراسات وجود صلة بين زيادة وقت الشاشة وارتفاع نسب السمنة بين الأطفال والمراهقين. لكن هذه الإرشادات لم تذهب بعيدًا في تحليل “نوعية” ما يُشاهَد. فطفل يشاهد برامج تعليمية على قناة عامة مع والديه، في بيئة تفاعلية ونقاش جماعي، لا يُقارن بطفل آخر ينعزل بسماعات الرأس لمتابعة فيديوهات سريعة مجهولة المصدر عبر تطبيقات غير خاضعة للرقابة.

يوتيوب: الشاشة المفضلة لجيل ألفا… والمجهولة رقابيًا

يُعدّ يوتيوب الوجهة الترفيهية الأولى لأكثر من 88% من الأطفال في المملكة المتحدة من سن الثالثة حتى السابعة عشرة. ورغم هذه النسبة الهائلة، لا يُذكر يوتيوب غالبًا ضمن مقترحات تقنين استخدام “وسائل التواصل الاجتماعي”، ولا يشمله الحديث السياسي والإعلامي عن المنصات التي تؤثر سلبًا على الصحة النفسية للأطفال. تزداد الخطورة حين ندرك أن هذه المنصة تعمل بخوارزميات تُفضّل الإثارة والمحتوى السطحي، وتفتقر إلى ضوابط التحرير أو الإشراف الحقيقي، مقارنة بمنصات الأطفال الحكومية مثل CBeebies وCBBC التي تضع جودة المحتوى كأولوية.

بين الاستخدام النشط والسلبي: الفارق التربوي العميق

بدأ بعض الخبراء التربويين والهيئات الطبية في التمييز بين “الاستخدام النشط” للشاشات – كالألعاب التعليمية أو التفاعل مع برامج تشجّع على النقاش – وبين “الاستخدام السلبي” الذي يتضمن مشاهدة فيديوهات بلا هدف، أو استهلاك محتوى ترفيهي سطحي دون أي تفاعل فكري أو اجتماعي. إلا أن هذه التوصيات لا تزال بعيدة عن الخطاب العام أو السياسات الحكومية، مما يترك الأهل وحدهم في مواجهة تحديات يومية معقدة. فهم مجبرون على الاختيار بين ترك أبنائهم في عزلة رقمية أو خوض معارك مستمرة بشأن “المسموح والممنوع” في عالم يزداد رقميًا كل لحظة.

أزمة رقمية تحتاج لسياسات جذرية… لا حلول تجميلية

تحذر الدكتورة ريجير من تحميل الأهل وحدهم كامل المسؤولية، فالأزمة الرقمية الحالية أشبه بأزمة صحة عامة تتطلب تدخلًا منظمًا على مستوى السياسات والتشريعات. وقد ذهب الجراح الأمريكي العام، فيفيك مورثي، مؤخرًا إلى القول إن وسائل التواصل الاجتماعي ترفع من خطر الإصابة بالقلق والاكتئاب لدى الأطفال والمراهقين. لذا فإن الحل ليس في تحديد وقت الشاشة فقط، بل في تقنين تصميم المنصات نفسها، ووضع حدود لما يمكن أن يُعرض للأطفال، وتوجيه التكنولوجيا نحو التمكين المعرفي لا الاستهلاك السلبي.

خطوات عملية من أجل تربية رقمية إيجابية

رغم تقاعس الحكومات في مواجهة عمالقة التكنولوجيا، يمكن للأهل البدء في بناء عادات صحية بأنفسهم. تقترح ريجير مشاهدة التلفزيون العام للأطفال معًا كأسرة، بدلًا من ترك الطفل أمام الشاشات بمفرده. كما توصي بتشجيع النقاش حول المحتوى، وتحفيز التفكير النقدي منذ سن مبكرة. يمكن استخدام أدوات بسيطة مثل “Sightengine” لفحص الصور الزائفة وبدء حوار مع الأبناء حول التضليل الرقمي. هذا إلى جانب تنظيم جلسات عائلية لتنظيف الحسابات الرقمية من المحتوى غير المفيد، والبحث معًا عن محتوى ملهم أو تعليمي.

إعادة تشكيل “النظام الغذائي الرقمي” العائلي

بدلًا من القلق المستمر، تدعو ريجير إلى منهج تشاركي بين الأهل والأبناء، من خلال الجلوس سويًا أسبوعيًا لمراجعة ما يشاهدونه، وتعديل “خوارزميات التوصية” بإرادتهم عبر التفاعل فقط مع ما يحبونه. كذلك تقترح استخدام متصفحات لا تعتمد على تتبع البيانات مثل “DuckDuckGo” أو “Firefox Focus”، للتقليل من الاستهداف الإعلاني، وفتح نقاشات أسرية حول الخصوصية. كل ذلك يزرع قيمًا رقمية صحية منذ الطفولة، تؤسس لعلاقة متوازنة مع العالم الرقمي بدلًا من علاقة استهلاكية منفلتة.

التكنولوجيا ليست العدو… إذا أعدنا تعريف العلاقة بها

في نهاية المطاف، لا تحمل ريجير خطابًا عدائيًا تجاه التكنولوجيا، بل تدعو إلى علاقة عقلانية، أخلاقية، وقيمية معها. فالشاشات ليست شرًا مطلقًا، كما أن العزلة عنها لا تعني بالضرورة حماية. المهم هو بناء وعي نقدي، وتحديد هوية رقمية إيجابية، تبدأ من داخل المنزل، وتُترجم إلى سلوك يومي. ومن خلال القدوة والمرافقة، يمكن أن نحول “وقت الشاشة” من تهديد إلى فرصة، ومن عبء إلى أداة تفتح أبواب الإبداع والمعرفة.

اقرأ أيضاً:

الجيش الإسرائيلي: خلافات حادة بين نتنياهو وزامير تصل إلى ذروتها

يارا حمادة

يارا حمادة صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى