أصوات معزولة في قلب الامازون:قبيله ماشكو بيرو في مواجهة الجشع البشري
صراع البقاء: قبيلة ماشكو بيرو في مواجهة الجشع والتهديدات

في غابة الأمازون الكثيفة الممتدة بين بيرو والبرازيل، يتكشّف فصل جديد من مأساة الصراع بين الإنسان والطبيعة، بين شعوب اختارت العزلة حفاظًا على نمط حياتها وبين آلة التوسع الاقتصادي الجارفة. قبيلة “ماشكو بيرو”، وهي واحدة من أكبر الشعوب الأصلية غير المتصلة بالعالم الخارجي، تقف اليوم في مواجهة غير متكافئة ضد مزيج مدمر من التهديدات: قطع الأشجار، تهريب المخدرات، التغير المناخي، والتواطؤ الرسمي. ورغم الاعتراف القانوني بوجودهم، فإن أراضيهم تُنهب تحت ستار “التنمية” وسط صمت رسمي وإحباط مجتمعي آخذ في التصاعد.
نشأة الاهتمام ومأساة الإهمال
بدأت القصة في أواخر تسعينيات القرن الماضي عندما وثّقت الباحثة بياتريس هويرتاس أدلة واضحة على وجود جماعات معزولة في منطقة نهر تاهوامانو على الحدود البيروفية البرازيلية. رغم توصياتها بحماية أكثر من مليوني هكتار من أراضي قبائل “ماشكو بيرو”، إلا أن الحكومة البيروفية وافقت فقط على حماية أقل من نصف المساحة، ثم قامت لاحقًا بمنح تراخيص لقطع الأخشاب في نفس المناطق.
القوانين بلا تنفيذ: حماية معلقة ومصالح متصاعدة
أقرّت بيرو عام 2006 قانونًا لحماية الشعوب المعزولة وحديثة الاتصال، وأسست محميات مخصصة لذلك، أبرزها محمية “مادري دي ديوس”. إلا أن خطط توسيع هذه المحمية لتشمل مناطق سكن رحل الماشكو بيرو – التي تمت الموافقة عليها عام 2016 – لم تُنفذ حتى اليوم. وبدلًا من سحب التراخيص، ما زالت أكثر من 176 ألف هكتار من أراضيهم تُستغل من قِبل شركات الأخشاب، مما يزيد من الاحتكاك ويهدد حياة أفراد القبيلة.
توثيق متصاعد للاحتكاك… وأجساد تغيب
ما بين عامي 2016 و2024، تم توثيق 81 حالة تشير إلى تواجد قبائل ماشكو بيرو داخل وحول المحمية المعترف بها، منها 19 حالة ضمن منطقة التوسيع المجمدة، و4 منها ترافقت مع مواجهات عنيفة. شهادات من الميدان تؤكد أن النساء والأطفال لم يعودوا يظهرون، في دلالة على تحوّل مجتمعي ناتج عن الخوف من الاعتداءات، حيث أصبح القادرون على القتال فقط هم من يظهرون عند ضفاف الأنهار.
الطبيعة لم تعد مأوى آمنًا
إلى جانب التهديدات البشرية، ساهمت الأزمة المناخية في تغيير أنماط الحياة لدى ماشكو بيرو، حيث جفّت الجداول التي يعتمدون عليها في الصيف، مما اضطرهم إلى النزول من أعالي الأنهار والاقتراب من القرى والمجتمعات المتصلة، ما زاد احتمالات المواجهة والاحتكاك، خاصة في المناطق التي تغيب فيها الحماية القانونية.
تشكيك منظم في وجودهم… لتبرير الاستغلال
في مواجهة المطالب بحماية أراضي الماشكو بيرو، لجأت أطراف سياسية واقتصادية إلى إنكار وجود هذه الشعوب من الأساس. ومنذ الرئيس البيروفي السابق آلان غارسيا، الذي وصف الحديث عن الشعوب المعزولة بأنه “خدعة لوقف مشاريع النفط”، وحتى حملة رجال الأعمال في شمال شرق البلاد مؤخرًا، يتكرر نمط نفي وجود الشعوب المعزولة رغم الأدلة الدامغة.
شهادات FSC لا تحمي الأرواح
حتى الشركات التي تدّعي الالتزام بالاستدامة وتحمل شهادات من مجلس الإشراف على الغابات (FSC) متورطة في النزاع، مثل شركة Maderacre التي تنشط في أراضٍ ضمن المخطط لتوسعة محمية ماشكو بيرو. بعض هذه الشركات تورّط في صدامات دامية أسفرت عن مقتل عمّال واختفاء آخرين، بينما لا أحد يعرف عدد أفراد القبيلة الذين قتلوا أو أصيبوا في تلك المواجهات، في ظل غياب أي مساءلة.
الجهات الرسمية: شريك في الجريمة أم عاجزة؟
رغم إقرار المؤسسات القضائية الدولية بخرق بيرو لحقوق الماشكو بيرو، إلا أن مؤسساتها لا تزال تعيق التقدم. تخفيض ميزانيات نقاط المراقبة، وتعطيل لجان الأراضي، وتجاهل الدراسات الميدانية كلها مؤشرات على أن الدولة البيروفية تميل لصالح المستثمرين، لا السكان الأصليين. بل إن بعض مسؤوليها يقترحون مناطق “تعايش” بين قاطعي الأشجار والسكان المعزولين، ما يُعد انتهاكًا فاضحًا لحقهم في العزلة.
على الحدود… لا أحد يراعي الحدود
رغم توقيع اتفاق تعاون بين البرازيل وبيرو لحماية الشعوب المعزولة عام 2014، إلا أن الاتفاق لم يُجدد. ومع غياب التنسيق الرسمي، لجأت المجتمعات الأصلية إلى تشكيل لجان مشتركة لحماية “الممرات الإقليمية” التي تضم أكثر من 25 مليون هكتار. لكن مشاريع بناء الطرق وتوسيع مناطق التعدين والقطع لا تزال مستمرة في كلا البلدين، ما يجعل تفتيت أراضي ماشكو بيرو خطرًا وشيكًا.
رسالة من داخل الغابة: “أنتم سيئون”
عندما سأل أحد الحماة المحليين أفرادًا من ماشكو بيرو إن كانوا يريدون التواصل مع العالم الخارجي، أجابوه ببساطة: “لا، لأنكم سيئون”. وحين حاول التوضيح أنه ليس سيئًا، ردوا: “ربما، لكن الآخرون كذلك”. هذه العبارة الصادقة تلخص شعور أمة كاملة تجاه “التقدم” كما نراه. فهم لا يفهمون لماذا تُقطع الأشجار، ويعتبرونها معالم مقدسة، وليس موارد قابلة للاستغلال.
بين صمت الدولة وخيانة الشركات، من يحمي البراءة؟
قضية ماشكو بيرو ليست فقط قصة قبيلة غامضة تعيش في عزلة، بل مرآة تعكس وحشية اقتصاد لا يعترف إلا بالمصالح. ما لم تتوقف الحكومات عن خدمة الشركات وتبدأ بواجبها الأخلاقي في الحماية، فإن تلك العزلة الطوعية قد تتحول إلى فناء قسري. والأسوأ من ذلك، أننا لن نعرف حتى متى أو كيف حدث ذلك.