عربي وعالمي

ألمانيا وماضيها النازي: مواجهة انتقائية حسب المصلحة

لطالما افتخرت ألمانيا بكونها واجهت ماضيها النازي بشجاعة وشفافية. جيل ما بعد الحرب تلقى تعليمًا مكثفًا حول جرائم النازية، وزار معسكرات الاعتقال، ودرس تاريخ الهولوكوست باعتباره تحذيرًا من انزلاق الديمقراطية نحو الفاشية. إلا أن هذه الذاكرة تبدو اليوم انتقائية، تُفعّل حين تخدم الصورة الرسمية، وتُتجاهل عندما تصبح عبئًا أخلاقيًا أو سياسيًا.

تكريم إعلامي مشكوك في رمزيته

في الأسبوع نفسه الذي فاز فيه صحفيون من مؤسسات ألمانية كبرى بجائزة “هيربرت كواندت” للإعلام، أُعيد طرح تساؤلات قديمة حول رمزية الجائزة ومرجعيتها. هيربرت كواندت كان أحد أبرز الداعمين للنظام النازي، وشارك مع والده في استعباد عشرات الآلاف من العمال داخل مصانع البطاريات، واستفاد من عمليات “آرَنة” الشركات اليهودية. وبعد الحرب، نجا من المحاسبة، وواصل العمل مع شخصيات مرتبطة بالبروباغندا النازية.

ورغم أن عائلة كواندت أقرت لاحقًا بحجم تورطها، إلا أن وسائل الإعلام الألمانية لم تتوقف عن قبول الجائزة الممولة من إرثه. هذا السلوك يثير تساؤلات حول التزام الصحافة الألمانية بالمبادئ التي تُعلن عنها في خطابها العام.

صمت رسمي بشأن الحاضر

في مشهد آخر لا يقل دلالة، قام وزير الخارجية الألماني بوضع إكليل من الزهور في نصب ياد فاشيم التذكاري في القدس، مستحضرًا ضحايا المحرقة. إلا أنه، في نفس اليوم، أعرب عن “تفهمه” لإغلاق إسرائيل معابر غزة ومنع دخول المساعدات الإنسانية. هذا التناقض بين إدانة جرائم الماضي وتبرير انتهاكات الحاضر يسلط الضوء على ازدواجية المعايير التي تطبع السياسة الخارجية الألمانية، خاصة عندما يتعلق الأمر بحلفائها.

الذاكرة الجماعية ومحدودية المساءلة

 

ما يلفت الانتباه أيضًا هو أن هذا النمط من الانتقائية لا يقتصر على الحالة الإسرائيلية. فشوارع ألمانية ما تزال تحمل أسماء مجرمي الحقبة الاستعمارية، والحكومة ترفض حتى اليوم دفع تعويضات مباشرة لأحفاد ضحايا الإبادة في ناميبيا، مكتفية ببرامج مساعدات تُبرم مع الدولة وليس مع المتضررين أنفسهم.

خاتمة

تستند سمعة ألمانيا الدولية إلى ما يُعرف بـ”ثقافة الاعتراف” بالماضي، وهي مقاربة ساهمت في إعادة بناء مكانتها بعد الحرب العالمية الثانية. لكن عندما تصبح هذه الثقافة أداة انتقائية تُستخدم لتجميل الصورة من جهة، ولتبرير مواقف سياسية واقتصادية من جهة أخرى، فإن قيمتها الأخلاقية تتراجع بشكل كبير.

  السؤال الذي يفرض نفسه اليوم:

هل لا تزال عبارة “لن يتكرر ذلك أبدًا” التزامًا حقيقيًا، أم تحوّلت إلى شعار فارغ يُرفع فقط عندما لا يهدد المصالح؟

يارا حمادة

صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى