السباق نحو “السماء المسلحة”: كيف تستعد أمريكا لحرب الأقمار الصناعية؟
الفضاء يتحوّل لساحة معركة: أمريكا تقود سباق التسلّح المداري

بينما تنشغل العواصم الكبرى بصراعات الأرض، تتجهز الولايات المتحدة لمعركة من نوع آخر… فوق السحاب. فبعد سنوات من التركيز على البنية التحتية وتطوير الكوادر، تدخل القيادة الفضائية الأمريكية مرحلة جديدة، لا تكتفي فيها بمراقبة الفضاء بل بالاستعداد للمنازلة فيه. الجنرال ستيفن ويتينغ، قائد هذه القيادة، لم يتردد في وصف الفضاء كساحة حرب حقيقية تتطلب سلاحًا وعقيدة قتالية وتكنولوجيا هجومية ودفاعية متطورة.
إعادة تأسيس هذه القيادة عام 2019، في عهد الرئيس دونالد ترامب، لم تكن خطوة رمزية أو استعراضية، بل مثلت إعلان دخول رسمي لأمريكا في سباق تسليح الفضاء. ترامب، الذي لا يزال يحكم في ولايته الثانية، كان أول رئيس أمريكي يتبنى علنًا فكرة بناء “مظلة ذهبية” للدفاع الصاروخي من الفضاء، تشمل اعتراض الصواريخ والأقمار الصناعية المعادية من المدار.
اليوم، وبعد مناورة مشتركة دقيقة بين أقمار أمريكية وفرنسية بالقرب من قمر صناعي يُعتقد أنه روسي، تؤكد أمريكا أنها لا تمتلك فقط القدرة على المناورة الفضائية، بل على العمل مع حلفاء خارج نادي “العيون الخمس”. التهديدات التي تمثلها الصين وروسيا والهند دفعت واشنطن إلى تجاوز الخطوط الحمراء التقليدية، والحديث بصراحة عن حاجتها إلى “أسلحة فضائية هجومية“. لكن الحرب القادمة لن تكون فقط بين الحديد والوقود، بل بين الذكاء الاصطناعي والاستراتيجية، وبين من يملك المدار ومن يُقصى منه.
مناورة فضائية مشتركة: رسائل في المدار
أواخر العام الماضي، أجرت أمريكا وفرنسا مناورة فضائية حساسة عُرفت باسم “اللقاء والاقتراب”، وهي تقنية تعتمد على اقتراب قمر صناعي من آخر بغرض المراقبة أو التشويش أو حتى الهجوم. لم يتم الإعلان رسميًا عن هوية الهدف، لكن التلميحات تكفي؛ روسيا سبق وأن قامت بمناورات مماثلة قرب أقمار فرنسية. المناورة كانت الأولى من نوعها بين أمريكا ودولة خارج تحالف “العيون الخمس”، وهدفت إلى إظهار القدرة على التنسيق الهجومي المشترك في الفضاء. الجنرال ويتينغ اعتبر المناورة نجاحًا كبيرًا، وأكد نية تكرارها هذا العام ضمن عقيدة فضائية هجومية جديدة.
الفضاء كساحة قتال… لا مجرد منصة اتصالات
التحول في العقيدة الأمريكية نحو الفضاء جاء استجابة لواقع متغير. فالقوات الأمريكية أصبحت تعتمد بشكل متزايد على الأقمار الصناعية في كل عملية تقريبًا، بدءًا من جمع المعلومات الاستخبارية، وحتى توجيه الضربات الدقيقة، كما حدث في عملية استهداف إيران مؤخرًا. في ذات الوقت، تسارع الصين بشكل مذهل في إطلاق أقمار صناعية، متجاوزة روسيا من حيث القدرات التقنية والكمية، ومجربة أسلحة تشويش ومدمّرات مدارية تهدد كل ما يدور في الفلك.
من الدفاع إلى الهجوم: لا خجل من استخدام القوة
في الماضي، كانت القيادة الفضائية تتحدث عن قدراتها الدفاعية بتحفظ، لكن الأمور تغيرت الآن. الجنرال ويتينغ أعلن صراحة أن القيادة تحتاج إلى “نيران فضائية” وأنواع مختلفة من الأسلحة المدارية، بما في ذلك معترضات مدارية مخصصة لتدمير أقمار صناعية أو صواريخ. المبادرة تتماشى مع مشروع “القبة الذهبية” الذي أطلقه ترامب، والذي يهدف إلى نشر درع صاروخي فعال في المدار. المسؤولون يؤكدون أن “الفضاء-للأرض” و”الفضاء-للفضاء” سيكونان جزءًا من الردع العسكري المستقبلي.
تحالفات فضائية جديدة: نحو محور هجومي مشترك
إلى جانب التحول العقائدي، تتحرك أمريكا لتشكيل شبكة تحالفات فضائية هجومية. ضمن عملية “المدافع الأولمبي”، تعمل أمريكا مع ست دول حليفة (منها فرنسا وألمانيا ونيوزيلندا) على وضع خطة ردع مشتركة ضد “الأفعال العدائية في الفضاء”. وقد وصلت العملية إلى “الجاهزية التشغيلية الأولية” في أبريل، مع توقيع الدول السبع على خطة عمليات موحدة. هذه الخطوة تعني أن واشنطن لا تستعد فقط منفردة، بل تهيئ أيضًا حلفاءها للمعركة المدارية القادمة.
مشكلة الوقود… وحلول مرنة
واحدة من أبرز تحديات المناورة المدارية هي الحاجة إلى الوقود، الذي يُستهلك عند كل تحرك للأقمار الصناعية. لحل هذه المعضلة، تناقش القيادة الأمريكية ثلاثة خيارات: الأول هو تزويد الأقمار بالمزيد من الوقود، والثاني هو إعادة تزويدها في المدار (كما فعلت الصين مؤخرًا)، والثالث هو التعامل مع الأقمار كأصول قابلة للتضحية ضمن شبكات ضخمة. الفكرة الأخيرة تبدو الأكثر عملية، خاصة مع توسع برامج مثل “ستارلينك” التي تعتمد على مئات الأقمار الصغيرة والمترابطة.
الأقمار كجيش: الذكاء الاصطناعي يدخل الحلبة
يتطلع الجنرال ويتينغ إلى مستقبل تُزوَّد فيه الأقمار الصناعية بذكاء اصطناعي يسمح لها بالتعرف على الأخطار القريبة واتخاذ قرارات دفاعية بشكل مستقل، دون تدخل بشري. في المستقبل القريب، قد تتحرك مجموعات من الأقمار في تشكيلات طائرة، لتؤدي دور “حراس مداريين” يحرسون الأصول عالية القيمة. حتى الآن، تقتصر تطبيقات الذكاء الاصطناعي على الأرض، لكن التطوير جارٍ لنقل هذه التقنية إلى الفضاء ذاته.
“سبيس بوت”: ضابط افتراضي في غرفة العمليات
من بين الابتكارات اللافتة، كشفت القيادة عن استخدام نموذج لغوي ضخم (LLM) يشبه “شات جي بي تي”، يُدعى “سبيس بوت”، ويدرَّب على جميع بيانات التهديد والتخطيط. هذا المساعد الافتراضي يمكنه تحليل سيناريوهات الهجوم، والتوصية بالردود المناسبة في ثوانٍ، مقارنة بالساعات التي كانت تحتاجها فرق بشرية. إنها علامة على انتقال المعركة إلى مرحلة “سرعة الضوء”، حيث تصبح البرمجيات شريكًا في القيادة، لا مجرد أداة دعم.
اقرأ أيضاً حرائق غابات تلتهم ضواحي أثينا الشمالية وسط أوامر بالإخلاء ومخاوف من تفاقم الأزمة
هل اقتربنا من أول حرب فضائية حقيقية؟
بين الاستعدادات الأمريكية، والتسليح المتسارع لدى الصين وروسيا، والخطط البريطانية الجديدة لتطوير أسلحة مضادة للأقمار، يبدو أن الحرب الأولى في الفضاء قد لا تكون سيناريو خياليًا كما ظن كثيرون. بل قد تكون المسألة مسألة وقت… أو إشارة اشتعال خاطئة من قمر “ذكي” اعتبر شيئًا ما “تهديدًا”.