عربي وعالمي

المعونة الخارجية بين الواجب الأخلاقي والاستراتيجية الذكية لمواجهة الأزمات العالمية.

ديفيد ميليباند يدعو بريطانيا لإعادة تقييم دورها الإنساني في العالم المتغير.

في ظل تصاعد الجدل العالمي حول تقليص الإنفاق على المساعدات الخارجية، يبرز صوت ديفيد ميليباند، رئيس لجنة الإنقاذ الدولية (IRC)، مدافعًا عن الدور الحيوي لبريطانيا في دعم الدول الأكثر فقرًا. يؤكد ميليباند في مقاله المنشور في The Guardian بتاريخ 1 مايو 2025، أن المساعدات ليست فقط ضرورة إنسانية، بل وسيلة استراتيجية لتعزيز استقرار العالم، بما يخدم مصالح بريطانيا. ورغم التقدم في تقنيات الإغاثة، تعيق السياسات الحكومية هذا التقدم عبر تقليص التمويل وتحويل الدعم إلى الداخل البريطاني، مما يستدعي مراجعة عاجلة لاستراتيجية البلاد.

الابتكار والفعالية: ركيزتان في العمل الإنساني الحديث

استنادًا إلى خبرته الميدانية، يشير ميليباند إلى أن الابتكارات في المساعدات لم تعد حكرًا على الدول المتقدمة، بل يتم تطبيقها في المناطق المتضررة. مثال على ذلك، تمكن لجنة الإنقاذ الدولية من توفير لقاح منقذ للحياة في شرق أفريقيا مقابل 3 جنيهات فقط. وتُثبت التكنولوجيا مثل الذكاء الاصطناعي وأدوات التعليم تأثيرًا فعّالًا على المجتمعات الفقيرة بتكلفة زهيدة. ورغم هذه النجاحات، يهدد تراجع الدعم السياسي واستياء الشارع البريطاني استمرارية هذه الجهود. ويؤكد ميليباند أن الثقة الشعبية في فعالية المساعدات يجب أن تُترجم إلى سياسات داعمة.

الفقر العالمي: نجاحات الماضي تتلاشى أمام تحديات الحاضر

شهد العالم تراجعًا كبيرًا في نسب الفقر المدقع في التسعينيات وبداية الألفية، حيث انخفضت النسبة من أكثر من الثلث إلى 10% بحلول 2015، بفضل سياسات شاملة. لكن هذا التقدم توقف مؤخرًا، ويحذر البنك الدولي من أن جهود مكافحة الفقر قد دخلت طريقًا مسدودًا. اليوم، يعيش أكثر من 700 مليون شخص تحت خط الفقر، ويواجه 240 مليون إنسان في 19 دولة أزمات إنسانية حادة. وعلى الرغم من هذه الحاجة الملحة، لا تحظى هذه الدول إلا بنسبة 12% من المساعدات الدولية، بينما تذهب حصة الأسد لدول متوسطة الدخل مثل أوكرانيا، ما يشكل خللًا خطيرًا في التوزيع.

تعدد الأولويات وضمور الميزانيات: إضعاف للأثر الإنساني

منذ اعتماد أهداف التنمية المستدامة عام 2015، توسعت أجندة المساعدات لتشمل مجالات متعددة، ما أدى إلى تشتت التركيز وتآكل الفعالية. فبدلًا من توجيه الموارد إلى الغذاء والصحة، تُنفق على التعليم الرقمي والتغير المناخي. لا تتجاوز حصة المساعدات الإنسانية 14% من الميزانيات العالمية، بينما يحصل القطاع الصحي على 10% فقط. وفي بريطانيا، يُستخدم نحو 4 مليارات جنيه من “المساعدات الخارجية” لتمويل نفقات داخلية، ما يجعل قرابة 20% من هذه المساعدات تنفق داخل البلاد، في انحراف واضح عن أهدافها الأصلية.

الدول الهشة: أكثر احتياجًا… وأقل دعمًا

تتركّز الأزمات الإنسانية في الدول الهشة المتأثرة بالنزاعات والانهيار الحكومي، إلا أن هذه المناطق تلقى أقل اهتمام من المانحين. يُرجع ميليباند هذا الإهمال إلى ضعف الإرادة السياسية وتقليص الميزانيات، إضافة إلى فشل الشراكات العامة والخاصة. ويؤكد أن دعم هذه الدول لا يمثل فقط مسؤولية أخلاقية، بل وسيلة فعالة للوقاية من أزمات أكبر مستقبلًا، كالهجرة القسرية والصراعات الإقليمية. إهمال هذه الدول اليوم، سيجعل التعامل مع تداعياتها لاحقًا أكثر تكلفة وصعوبة.

إصلاح الاستراتيجية البريطانية: ضرورة ملحّة لا تحتمل التأجيل

مع اقتراب مراجعة الإنفاق العام، يطالب ميليباند بأن تلتزم بريطانيا بإنفاق نسبة 0.3% من دخلها القومي كمساعدات تُصرف فعلًا خارج البلاد. ويشدد على أهمية توجيه الدعم إلى الدول المتأثرة بالنزاعات، مثل السودان، حيث لا تزال خطط الاستجابة الإنسانية غير ممولة إلا بنسبة ضئيلة. كما يدعو إلى التركيز على البرامج ذات الأثر المثبت، مثل علاج سوء التغذية الحاد، ويقترح تعزيز دور الكوادر الصحية المحلية كوسيلة فعالة دون زيادة النفقات.

التمويل الذكي: تسخير القدرات المالية لخدمة الإنسان

يرى ميليباند أن بريطانيا تملك ميزة نادرة بفضل ريادتها المالية، ما يتيح لها تصميم أدوات تمويل مبتكرة للدول الفقيرة. ويقترح تسهيل التحويلات المالية التي تتجاوز 700 مليار دولار سنويًا، وإنشاء شراكات تجمع بين القطاعين العام والخاص، مع تقديم حوافز للاستثمار في البلدان المستقرة نسبيًا. كما يشدد على أهمية إعفاء الديون كوسيلة لتحسين الخدمات الأساسية وخلق بيئة جاذبة للاستثمارات. هذا التوجه يتطلب رؤية متكاملة تمزج بين البعد الاقتصادي والبعد الإنساني.

شراكة أوروبية جديدة: لاستعادة بريطانيا تأثيرها العالمي

في الختام، يدعو ميليباند إلى إعادة بناء علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي، عبر تعاون أوسع في مجال المساعدات الدولية. فالاتحاد الأوروبي يمتلك إمكانيات مالية وتنفيذية ضخمة، يمكن أن تشكل دعمًا حيويًا للجهود البريطانية. ومع تعقّد الأزمات العالمية، لم يعد بإمكان بريطانيا تجاهل ما يحدث خارج حدودها. عليها أن تكون فاعلة ومبادِرة في الساحة الإنسانية،لأن كلفة الانسحاب اليوم ستكون باهظة غدًا.

علياء حسن

علياء حسن صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى