الجارديان: كيف اقترب الناتو من حافة الانهيار في عهد ترامب؟

عاش حلف شمال الأطلسي بين عامي 2016 و2018 واحدة من أخطر فتراته منذ تأسيسه. فمع انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، وُضع الحلف أمام اختبار وجودي كاد أن يطيح بمظلته الدفاعية. الأمين العام السابق، ينس ستولتنبرغ، يروي تفاصيل تلك الأعوام التي شهدت تصاعد التوترات والتهديدات بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين. وبينما هدد ترامب مرارًا بالانسحاب، نجح ستولتنبرغ في إبرام “صفقة لغوية” أبقت واشنطن في صفوف الناتو، وأنقذت الحلف من الانهيار في اللحظة الأخيرة.
الركيزة الأميركية تهتز
تأسس الناتو على ثقل الولايات المتحدة السياسي والعسكري، لذا فإن ساكن البيت الأبيض يشكل نبض الحلف. ومع انتخاب ترامب، الذي وصف الناتو بأنه “عفا عليه الزمن” واتهم الأوروبيين بالتقاعس عن الدفع، دبت المخاوف في العواصم الأوروبية. حاول الجمهوريون التخفيف من حدّة تصريحاته، لكن خطابه القائم على منطق “الصفقة” و”الدفع مقابل الحماية” زعزع الثقة في استمرارية التحالف، ودفع قيادة الحلف إلى البحث عن أساليب جديدة للتعامل مع الرئيس غير التقليدي.

انضباط تحت التهديد
بعد فوز ترامب، فرض ستولتنبرغ داخل مقر الناتو نظامًا صارمًا: لا سخرية من الرئيس، لا تعليقات، ولا تسريبات للإعلام. أدرك أن أي تهاون قد يُفجر أزمة دبلوماسية. كانت الاستراتيجية بسيطة لكنها فعالة: الحفاظ على الانضباط المؤسسي لتفادي أي ذريعة قد يستخدمها ترامب للطعن في مصداقية الحلف. ومن خلال هذا الهدوء التكتيكي، حافظ ستولتنبرغ على قنوات الحوار مفتوحة، مهيئًا الأرضية لتفاهمات مستقبلية رغم التوتر السياسي.

أول اتصال… بداية تفاؤل حذر
في أول مكالمة بين ترامب وستولتنبرغ عام 2016، أعلن الرئيس الأميركي دعمه للحلف لكنه شدد على ضرورة زيادة الإنفاق الدفاعي. المفاجأة أن ستولتنبرغ وافقه الرأي، فقد كان موضوع “تقاسم الأعباء” أولوية لديه. هذا التوافق فتح نافذة تفاؤل، خصوصًا مع أسماء الإدارة الأميركية الجديدة مثل ماتيس وتيلرسون التي أبدت استعدادًا للتعاون. بدا أن التعاون ممكن إذا أُعيدت صياغة لغة ترامب “الصفقية” بلغة أرقام وإنجازات واقعية.
لقاء واشنطن 2017… من كوريا إلى آيسلندا
في أول لقاء مباشر بالبيت الأبيض، انتقل الحوار بين ملفات دولية عدة، لكن ترامب عاد دائمًا إلى سؤاله المحوري: “من يدفع؟”. لم يستثنِ حتى آيسلندا التي لا تمتلك جيشًا، متسائلًا عن جدوى وجودها في الحلف. أوضح وزير الدفاع ماتيس الأهمية الجغرافية والاستراتيجية لموقعها، فاقتنع ترامب جزئيًا. اللقاء كشف أسلوب الرئيس في إدارة التحالف: مساءلة شاملة لكل شريك، وربط الالتزام الأمني بالمكاسب الأميركية المباشرة.
لحظة رمزية ضاعت في بروكسل
في مايو 2017، وأمام نصب 11 سبتمبر بمقر الناتو الجديد، كان الجميع ينتظر من ترامب تأكيدًا علنيًا للمادة الخامسة الخاصة بالدفاع الجماعي. لكن الرئيس الأميركي فاجأهم بخطاب ركز فيه على “ضرورة الدفع” متجاهلًا جوهر التضامن العسكري. غابت الرسالة الرمزية التي ينتظرها الحلفاء، ما زاد شكوكهم في نوايا واشنطن. وأدرك ستولتنبرغ أن الناتو يواجه أزمة ثقة لا تقل خطورة عن أي تهديد عسكري.
صيف 2018… تحذير أخير من البيت الأبيض
قبل قمة بروكسل بأسابيع، تلقى ستولتنبرغ اتصالًا من ترامب يتهم فيه ألمانيا وإسبانيا بالتقصير في الإنفاق العسكري، مهددًا بانسحاب أميركي وشيك. كان ذلك التهديد أشبه بزلزال داخل الحلف، إذ يعني عمليًا انهيار الردع الأوروبي. وجد الأمين العام نفسه أمام مهمة إنقاذ في وقت قياسي، محاولًا صياغة مخرج دبلوماسي يحفظ ماء وجه واشنطن دون التضحية بتماسك الناتو.

قمة بروكسل 2018… على حافة الانفجار
في الجلسة المغلقة، صعّد ترامب لهجته، مطالبًا الحلفاء برفع الإنفاق إلى 2% فورًا، بل طرح 4% كحد أعلى. حاولت ميركل تهدئة النقاش، لكن الرئيس الأميركي لوّح بالانسحاب قائلاً: “لا سبب لبقائي هنا”. ساد الصمت والذهول بين القادة الأوروبيين، وبدت لحظة الانفجار قريبة. حينها أدرك الجميع أن مصير الحلف الذي وُلد عام 1949 قد يُحسم في تلك الغرفة المغلقة ببروكسل.

صفقة اللغة… جسر الإنقاذ الأخير
استغل ستولتنبرغ استراحة قصيرة لإقناع القادة الأوروبيين بخطة تهدئة. قدم مارك رُتّه الجسر اللغوي قائلاً: “بفضلك يا سيادة الرئيس، زاد الإنفاق بـ33 مليار دولار”. هذه العبارة أعادت ترامب إلى مزاج “الصفقة الرابحة”. كتب بخطه للأمين العام ملاحظة: “إذا أعلنت ذلك علنًا، سنتفق”. وافق ستولتنبرغ، وأعلن التزام الحلف بالمادة الخامسة. هكذا حُسمت الأزمة بكلمات لا برصاص، وبذكاء دبلوماسي أنقذ الحلف من انهيار تاريخي.
نجاة مؤقتة وسردية نصر أميركية
خرج ترامب إلى الإعلام معلنًا التزامًا “قويًا جدًا” بالناتو، متحدثًا عن 33 مليار دولار إضافية “بفضله”. حصل البيت الأبيض على قصة فوز، بينما حظي الناتو بفرصة جديدة لإعادة ترميم الثقة. لكن ما حدث كشف هشاشة البنية الاستراتيجية: تحوّل التحالف من شراكة أمنية إلى مفاوضة مالية مشروطة بالرئيس الأميركي. ومع ذلك، احتفظ الحلف بجوهره مؤقتًا بفضل براعة “الترجمة السياسية” التي مارسها أمينه العام.
دروس للبقاء في عصر التقلّب
أثبتت التجربة أن الرمزية توازي القوة العسكرية، وأن الإشارات السياسية قد تحدد مصير الحلف أكثر من دباباته. على القادة الأوروبيين أن يعرضوا إنجازات قابلة للقياس تُرضي الخطاب الأميركي، وأن يذكّروا واشنطن بأن “التحالف ليس عقد حراسة، بل شراكة دم وتضحيات”. كما أن هندسة الناتو لم تعد مسألة توازن عسكري فحسب، بل توازن لغوي ونفسي يضمن البقاء وسط تقلبات السياسة الأميركية.
من على الحافة… إلى اختبار البقاء المستمر
نجا الناتو في صيف 2018 من الانهيار بفضل صفقة ذكية أعادت إنتاج الالتزام الأميركي، لكنها كشفت هشاشة منظومة الردع الغربية. فحين يُختزل الأمن إلى “فاتورة”، تفقد المادة الخامسة معناها. ومع ذلك، أثبتت الأزمة أن القيادة الدبلوماسية قادرة على امتصاص الصدمات، إذا وُجدت الشجاعة لتطويع الخطاب دون التفريط بالمبدأ. يبقى التحدي الحقيقي أمام الناتو اليوم هو تحويل “تقاسم الأعباء” إلى قاعدة دائمة قائمة على الثقة، لا على الخوف من الانسحاب.