اخبار عاجلة

اندفاعة المستوطنين الإسرائيليين وخطرها على فكرة الدولة الفلسطينية

بينما ينشغل العالم بمتابعة أهوال الحرب الدائرة في غزة منذ ما يقارب العامين، تتحرك على الأرض في الضفة الغربية خطة لا تقل خطورة يقودها المستوطنون وحلفاؤهم في الحكومة الإسرائيلية. هذه الخطة لا تقتصر على توسيع المستوطنات القائمة، بل تمتد إلى إعادة فتح مواقع أُخليت سابقًا، مثل مستوطنة “حومش” التي عادت إلى الواجهة بعد عقدين من تفكيكها. بالنسبة للمستوطنين، فإن إعادة افتتاح روضة أطفال في هذه المنطقة ليست مجرد خطوة رمزية، بل إعلان انتصار طويل الأمد يثبت أن ما هُدم يمكن أن يُعاد بناؤه وأن مشروع الاستيطان أكبر من أي تسوية سياسية محتملة.

 

بالتوازي مع ذلك، تكشف التطورات الميدانية في غزة أن السياسات الإسرائيلية هناك تُستخدم كنموذج يُراد نقله إلى الضفة الغربية: تقسيم الأرض، إنشاء طرق التفافية خاصة بالمستوطنين، وفرض واقع أمني وعسكري يجعل من المستحيل قيام دولة فلسطينية متصلة. وبينما تتحرك دول غربية، مثل بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا، نحو الاعتراف بدولة فلسطين هذا الشهر، تتسارع على الأرض خطوات تهدد بجعل هذا الاعتراف مجرد إجراء رمزي بلا أثر فعلي.

 

عودة “حومش”: رمز أم بداية جديدة؟

 

إعادة افتتاح روضة في مستوطنة “حومش” المهجورة تحمل رمزية سياسية عميقة. فهذه المستوطنة كانت جزءًا من خطة الانسحاب التي نفذها أرييل شارون عام 2005، والتي أُريد منها آنذاك إظهار استعداد إسرائيل لتفكيك بعض البؤر الاستيطانية. لكن بعد عشرين عامًا، وبمباركة رسمية من وزراء نافذين مثل بتسلئيل سموتريتش، عاد المستوطنون إليها معلنين أن الانسحاب لم يكن إلا محطة مؤقتة. هذه العودة تعكس حجم النفوذ الذي اكتسبه المستوطنون داخل مؤسسات الحكم، وكيف تحولت وعود قديمة إلى حقائق ميدانية ترسخ بقاءهم في قلب الضفة الغربية.

غزة نموذجا للضفة الغربية

 

ما يحدث في غزة منذ أكتوبر 2023 يبدو أشبه بمختبر تجارب. الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية ودفع أكثر من مليوني إنسان إلى العيش في مناطق محاصرة وصغيرة، يشكل النموذج الذي يحاول المستوطنون استنساخه في الضفة. الخرائط التي ترسمها منظمات استيطانية تشير بوضوح إلى خطط لتوزيع البؤر على الأراضي الفلسطينية وربطها بطرق إسرائيلية جديدة، بما يجعل الفلسطينيين محصورين في جزر معزولة بلا تواصل جغرافي.

 

مشروع “E1”: الضربة القاضية لفكرة الدولة

 

من أخطر المشاريع الاستيطانية الحالية “E1″، الواقع بين القدس ومستوطنة معاليه أدوميم. هذا المشروع إذا اكتمل سيقسم الضفة الغربية إلى قسمين شمالي وجنوبي، ما يجعل إقامة دولة فلسطينية متصلة أمرًا مستحيلًا. الحكومة الإسرائيلية منحت الضوء الأخضر لبناء آلاف الوحدات السكنية في هذه المنطقة مؤخرًا، رغم الانتقادات الدولية. الهدف المعلن للمستوطنين ليس تلبية حاجة سكانية، بل فرض سيطرة سياسية وجغرافية على قلب الضفة.

 

العنف أداة للاستيلاء على الأرض

 

إلى جانب القرارات الحكومية، يستخدم المستوطنون العنف كوسيلة فعالة لطرد الفلسطينيين من أراضيهم. تقارير منظمات حقوقية تشير إلى تصاعد الاعتداءات على القرى الفلسطينية المعزولة، حيث تُجبر العائلات على ترك منازلها بفعل الترهيب اليومي. في كثير من الحالات، يتدخل الجيش الإسرائيلي لحماية المستوطنين بدلًا من كبح جماحهم، مما يعكس تواطؤًا مؤسساتيًا يحول “المبادرات الفردية” إلى سياسة أمر واقع.

انهيار مناطق الحكم الفلسطيني

 

رغم أن اتفاقيات أوسلو قسمت الضفة إلى مناطق “أ” و”ب” و”ج”، فإن إسرائيل تتعامل مع هذه المناطق اليوم وكأنها كلها تخضع لسيطرتها. العمليات العسكرية في جنين وطولكرم لم تعد مجرد اقتحامات قصيرة، بل تحولت إلى حملات واسعة دمرت أحياء كاملة وشردت عشرات الآلاف. هذه العمليات تجعل من فكرة أن السلطة الفلسطينية صاحبة سيادة في أي جزء من الضفة مجرد وهم.

 

الانقسام الدولي بين الاعتراف والواقع

 

إعلان دول كبرى نيتها الاعتراف بدولة فلسطين يحمل قيمة رمزية كبيرة، لكنه يفتقد القوة التنفيذية على الأرض. فبينما تتحرك لندن وباريس وأوتاوا نحو هذا الاعتراف، يرد وزراء إسرائيليون بالدعوة إلى ضم رسمي للضفة. هذه المفارقة تعكس الشرخ بين الدبلوماسية الدولية وما يجري فعليًا في الميدان، حيث يواصل المستوطنون فرض وقائع جديدة كل يوم.

 

نتنياهو والمراوغة السياسية

 

رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يتعمد ترك مسألة الضم غامضة. فهو يلمح أحيانًا إلى إمكانية فرض السيادة الإسرائيلية على مساحات واسعة من الضفة، لكنه يتراجع عند مواجهة الضغوط الأمريكية أو عند الحاجة للحفاظ على علاقاته مع دول عربية عبر اتفاقيات أبراهام. هذه المراوغة تمنحه هامش مناورة سياسي، لكنه في الوقت ذاته يسمح لحلفائه اليمينيين بقيادة خطوات متسارعة نحو الضم الفعلي.

 

مستقبل الدولة الفلسطينية: بين التآكل والرمزية

 

النتيجة النهائية لهذه التحركات هي تقويض أي أفق لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة. الفلسطينيون يجدون أنفسهم محاصرين بين عنف المستوطنين وتواطؤ الجيش، وبين اعترافات دولية لا تغير شيئًا في حياتهم اليومية. ومع استمرار الوضع الحالي، تتحول الدولة الفلسطينية من مشروع سياسي ممكن إلى مجرد رمز يُرفع في المحافل الدولية، بينما على الأرض تترسخ وقائع تجعل حل الدولتين أقرب إلى الأسطورة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى