حوادث وقضايا

رؤيه راشيل ريفز الاقتصادية تتضح أخيرا..ولكن بعد فوات الاوان

"حكومة كير ستارمر: بين التحديات الاقتصادية والضغوط السياسية"

في زمن تآكلت فيه الثقة بالسياسة، يصعب على الحكومات الجديدة أن تطلب من المواطنين الانتظار طويلاً لجني ثمار خطط استثمارية بعيدة المدى. لكن هذا بالضبط ما يبدو أن حكومة كير ستارمر تحاول أن تفعله — وربما يكون الوقت قد تأخر كثيرًا لذلك.

 

حكومة فتية… بروح عجوزة

رغم مرور أقل من عام على دخول كير ستارمر مقر رئاسة الوزراء، تبدو حكومته وكأنها إدارة انتقالية منهكة. فالحيوية التي كان يُفترض أن تُميّز بداية ولاية جديدة طغى عليها شعور بالجمود، تغذيه سلسلة قرارات متخبطة، كان أبرزها تخفيض مدفوعات الوقود الشتوية للمُسنّين — خطوة أثارت موجة غضب شعبي واضطرّت الحكومة للتراجع عنها جزئيًا.

 

هذا التراجع لم يأتِ من فراغ، بل بعد أن تبيّن أن وفورات الخزانة من هذه الخطوة كانت زهيدة مقارنة بالكلفة السياسية الباهظة التي تكبدتها الحكومة.

 

رسالة التقشف المقنّع

وزيرة المالية راشيل ريفز أرادت إيصال رسالة مفادها أن حزب العمال لن يفرّط في الانضباط المالي، محمّلة تركة المحافظين مسؤولية “العجز الهيكلي” الذي قُدّر بـ20 مليار جنيه إسترليني، ولكن الانطباع العام كان أن الحكومة تُمرّر إجراءات مؤلمة من دون رؤية واضحة، بل من دون تفويض انتخابي صريح.

 

لقد تجرأت الحكومة على المساس بمصالح شرائح حساسة — المتقاعدون، المزارعون، رجال الأعمال — على أمل أن يُمنح لها بعض الوقت لإثبات جدارتها. لكنّ الناخب البريطاني، الذي أنهكته سنوات من الركود وارتفاع تكاليف المعيشة، لم يعد يمتلك هذا الصبر.

 

المراجعة المالية: لحظة مفصلية متأخرة

خطة الإنفاق التي أعلنتها الحكومة هذا الأسبوع تبدو ضخمة على الورق: زيادة في الإنفاق الرأسمالي والتشغيلي بقيمة إجمالية تتجاوز 300 مليار جنيه، وهو ما يفوق بكثير تعهدات المحافظين قبل الانتخابات. لكن هذا “الكرم” لن يشمل جميع الوزارات، فبعضها سيواجه تخفيضات حقيقية في القوة الشرائية.

 

أما “التجديد الوطني” الذي تتحدث عنه ريفز، فلن يرى المواطن نتائجه الفعلية قبل سنوات، وربما عقود، مع استثمارات طويلة الأجل في السكك الحديدية والإسكان والطاقة.

 

الرهان على الذاكرة القصيرة

جزء من استراتيجية الحكومة كان مبنيًا على تحميل المحافظين مسؤولية الأزمة، وهو أمر مشروع من حيث المبدأ، لكن فعاليته في العصر الحالي محدودة. في السابق، استُخدم إرث “شتاء السخط” لإقصاء العمال من الحكم لعقد كامل، تمامًا كما أسهم فساد وتساهل حكومة المحافظين في التسعينيات في إسقاطها لاحقًا. لكن الناخبين اليوم أقل استعدادًا للتسامح وأقصر ذاكرةً، ما يعني أن حزب العمال لن يحصد بالضرورة ثمرة غضب الناخبين من حكم المحافظين.

 

شعبوية جديدة ونظام حزبي مُتفتّت

الخلل لا يكمُن فقط في أداء حكومة العمال، بل في تغيّرات أعمق في بنية النظام السياسي البريطاني. حزب “ريفرم يو كاي” يواصل صعوده في استطلاعات الرأي، متجاوزًا أحيانًا المحافظين. وفي مجال السيطرة المحلية، أصبح الليبراليون الديمقراطيون الحزب الثاني فعليًا.

 

صحيح أن الأحزاب الصغيرة اعتادت استغلال فترات ضعف الحزبين الرئيسيين، كما حدث مع “التحالف الديمقراطي الاجتماعي–الليبرالي” في الثمانينيات، لكن هناك مؤشرات بأن ما نشهده اليوم ليس مجرد ظاهرة عابرة. صعود الأحزاب الشعبوية ليس حكرًا على بريطانيا؛ بل هو اتجاه عالمي يهدد الأحزاب التقليدية من اليمين واليسار على حد سواء، كما فعل ترامب بالحزب الجمهوري في أمريكا.

 

أزمة سردية لا أزمة سياسة فقط

الحكومة الحالية لا تعاني من نقص في السياسات بقدر ما تعاني من غياب الرواية. فالحملة الانتخابية لحزب العمال بُنيت على فكرة طمأنة الناخبين لا إثارة حماسهم. ستارمر قدّم نفسه كبديل آمن، لا كمصلح جذري. والنتيجة أن الناخبين لم يتلقّوا تصورًا واضحًا لما يعنيه “التغيير” سوى أنه يعني… أشخاصًا مختلفين في المواقع ذاتها.

 

وبمجرد أن اصطدمت هذه الوعود الغامضة بواقع الحكم، ظهر التناقض. فأي قرار غير شعبي أصبح يُفسَّر على أنه استمرار للنهج القديم، لا بداية جديدة.

 

ختامًا: هل تأخرت الحكومة في إطلاق مشروعها الإصلاحي؟

من الواضح أن الإنفاق المُعلن مؤخراً يمكن أن يرسي أسسًا جديدة للاقتصاد البريطاني، مغايرة فعلاً لما كان يريده المحافظون. لكنّ الضرر وقع في الأشهر الأولى: فترة ضائعة تميزت بقرارات جزئية ورسائل غامضة، بدلًا من انطلاقة قوية تُقنع الناس بأن هناك خطة حقيقية.

 

بعبارة أخرى، المشكلة ليست في المسار الذي تسلكه حكومة حزب العمال اليوم، بل في بطء انطلاقتها، وضآلة الفارق الذي شعرت به الناس بينها وبين سابقتها. وهذا ما جعلها تبدو، في نظر الكثيرين، مجرد نسخة “مهذبة” من النظام القائم، لا بديلاً حقيقياً له.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى