تقرير تحليلي: كيف يهدد اليمين المتشدد مستقبل اقتصاد أوروبا؟

تعيش أوروبا في لحظة مفصلية على المستويين السياسي والاقتصادي، حيث يتصاعد نفوذ اليمين المتشدد في عدد من الدول الكبرى، من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وصولًا إلى إيطاليا وبولندا. وإذا استمرت هذه الموجة حتى عام 2027، فقد تجد القارة نفسها أمام واقع جديد يتمثل في وصول هذه التيارات إلى السلطة في دول تمثل ما يقارب نصف الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي.
القلق لا يتعلق فقط بالشعارات القومية أو المواقف المعادية للهجرة، بل يتركز بشكل خاص على السياسات الاقتصادية التي يتبناها اليمين المتشدد، والتي تمزج بين الإنفاق السخي والوعود الضريبية من دون رؤية واضحة لضبط الموازنات العامة أو تعزيز النمو طويل الأمد. التقرير التالي يستعرض المخاطر المباشرة وغير المباشرة التي قد تواجه اقتصاد أوروبا إذا استمر هذا الزخم الشعبوي في التوسع.
صعود اليمين المتشدد: من الهامش إلى مركز السلطة
لم يعد حضور اليمين المتشدد مقتصرًا على احتجاجات أو مقاعد محدودة في البرلمانات، بل أصبح قوة انتخابية فعلية. ففي إيطاليا وصل إلى الحكم، وفي هولندا لعب دورًا رئيسيًا في تشكيل الائتلافات، بينما يحقق في فرنسا وألمانيا وبريطانيا تقدمًا ملحوظًا في استطلاعات الرأي. هذا التحول من “المعارضة الغاضبة” إلى “السلطة التنفيذية” يمثل نقلة خطيرة قد تغيّر شكل إدارة الاقتصادات الأوروبية.
التهديد المباشر: وعود إنفاقية بلا غطاء
تتمثل أبرز المخاطر المباشرة في السياسات الاقتصادية التي يتبناها اليمين المتشدد، حيث يتم الجمع بين خفض الضرائب وزيادة الدعم الموجه للأسر والمتقاعدين. مثل هذه السياسات تبدو جذابة انتخابيًا، لكنها تفتقر إلى مصادر تمويل واقعية، إذ يتم التعويل على “تخفيض الإنفاق على المهاجرين أو البيروقراطية” لتغطية فجوات بمئات المليارات. الأسواق المالية لا ترحم مثل هذه الأوهام، وأي تراخٍ في الانضباط المالي قد يقود إلى أزمات سندات على غرار ما شهدته بريطانيا أو إيطاليا في السابق.
التهديد غير المباشر: شلل التيار الوسطي
لا يقتصر الخطر على ما قد يفعله اليمين المتشدد في السلطة، بل يمتد إلى أثره النفسي والسياسي على التيارات الوسطية. فالكثير من الأحزاب التقليدية باتت تتجنب الإصلاحات الضرورية خشية أن تُتهم بأنها تعادي الناخبين أو تُعطي ذخيرة سياسية للمتشددين. النتيجة هي شلل حكومي وغياب إصلاحات جوهرية، ما يفاقم الركود ويعزز من قوة الخطاب الشعبوي ذاته.
الاقتصاد الأوروبي: هشاشة سابقة للأزمة
تأتي هذه التطورات في وقت يعاني فيه الاقتصاد الأوروبي بالفعل من ضعف واضح؛ فالنمو السنوي بالكاد يبلغ 1%، وألمانيا – المحرك التقليدي للقارة – بالكاد حققت نموًا منذ 2019. أما بريطانيا وفرنسا فقد شهدتا ارتفاعًا في عوائد السندات إلى مستويات تاريخية، ما يعكس هشاشة الثقة في استقرار مالي طويل الأمد. دخول اليمين المتشدد إلى المشهد قد يكون بمثابة صدمة إضافية لاقتصاد لم يتعافَ بعد من تداعيات الجائحة والحرب الأوكرانية.
سياسات محافظة على الماضي لا صانعة للمستقبل
بعكس بعض التجارب الشعبوية الأمريكية ذات الأجنحة المؤيدة للتكنولوجيا والداعية للتحرر من القيود، يركز اليمين الأوروبي على الحنين إلى الماضي، وحماية قطاعات تقليدية، ورفض المنافسة والانفتاح. هذا يعني أن سياساتهم ستؤدي إلى تعزيز الجمود الاقتصادي، لا إطلاق ديناميكية نمو جديدة.
خطر الانضباط المالي: وهم الادخار من “الهجرة”
العديد من أحزاب اليمين المتشدد تَعِدُبتمويل برامجها عبر تخفيض الإنفاق على المهاجرين والبيروقراطية، لكن الأرقام غير واقعية. مثال ذلك حزب “ريفرم يو كيه” في بريطانيا، الذي وعد بحزم إنفاقية بقيمة 200 مليار جنيه إسترليني، معتمدًا على ادعاءات بتوفير 100 مليار من التخفيضات الغامضة. التجربة التاريخية تؤكد أن مثل هذه الحسابات تنهار سريعًا أمام اختبار الأسواق.
دور البنك المركزي الأوروبي: الضامن الأخير المهدد
منذ أزمة اليورو، لعب البنك المركزي الأوروبي دور “المُقرض الأخير” للدول المتعثرة، مستندًا إلى تعهدات ماريو دراغي الشهيرة بـ “فعل كل ما يلزم”. لكن مع صعود قادة مثل مارين لوبان أو جوردان بارديلا، قد يصبح التنسيق السياسي بين حكومات اليورو أكثر هشاشة، ما يهدد قدرة البنك المركزي على التدخل بشكل موحد. الأسواق بدورها قد تختبر هذا الضعف عبر هجمات مضاربية على السندات الأوروبية.
مأزق السياسات الوسطية: بين الإصلاح والتردد
أحد أخطر الآثار الحالية يتمثل في أن التيارات الوسطية تجد نفسها بين خيارين أحلاهما مر: إما المضي في إصلاحات مؤلمة تُغضب الناخبين وتُقوي خطاب اليمين، أو التردد والتجميد ما يؤدي إلى استمرار الركود وتآكل الثقة الشعبية. هذه الحالة من “الإدارة بالحد الأدنى” تترك الساحة مفتوحة أمام الخطاب الشعبوي المتصاعد.
السيناريوهات المحتملة: ركود أم أزمة سندات؟
وفق التقديرات، السيناريو الأفضل هو استمرار الركود والجمود الاقتصادي لسنوات قادمة إذا تَمكن اليمين المتشدد من فرض أجندته. أما السيناريو الأسوأ فهو انفجار أزمة سندات شبيهة بأزمات اليورو السابقة، ما قد يعصف بوحدة الاتحاد الأوروبي ويضعف موقعه في الاقتصاد العالمي.