البابا فرنسيس: إصلاحيّ لم ترقَ أفكاره للمؤسسة… لكنه أنار الطريق
فرنسيس الإصلاحي: هل خذلته المؤسسة أم سبق زمنه؟

رغم أن إرث البابا فرنسيس في التعامل مع فضيحة الاعتداءات الجنسية لم يكتمل بعد، فإنه قد أثبت أن التغيير ممكن، وأن الرحمة يمكن أن تكون واقعًا لا مجرد شعار.
منذ بداية حبريته، أعلن البابا فرنسيس أن “اسم الله هو الرحمة”، إدراكًا منه بأن الكنيسة أصبحت، في نظر الكثيرين، عقائدية متصلبة، منقسمة، وحكمية. وكان تراجع الممارسات الدينية التقليدية بين الكاثوليك في الغرب شاهدًا على ذلك. عرف أن الكنيسة قد نفرَت مجتمع الميم، وأقصت النساء، ورفضت إشراك المطلقين والمتزوجين مجددًا مشاركة كاملة في الأسرار. كما أقر بأن أسلافه لم يواجهوا فضيحة الانتهاكات الجنسية الكهنوتية بشجاعة كافية. أراد أن يُصلح، وكانت الجماهير الكاثوليكية معه… لكن المؤسسة لم تكن كذلك.
التحدي من الداخل: مقاومة جهاز كنسي متجذّر
بطبيعتها، الكنيسة الكاثوليكية مؤسسة محافظة، تسير بالتدرّج، وتعتمد على الجمود كأداة إدارة. وقد واجه فرنسيس هذا الجمود بصراحة؛ إذ كان ينتقد النزعة الكهنوتية التي رأى أنها غذّت شعورًا بالاستحقاق وسوء استخدام السلطة، وساهمت في تركيز الجهود على حماية صورة المؤسسة بدلاً من الوقوف إلى جانب ضحايا الانتهاكات. كان واعيًا بأن تلك النزعة دفعت رجال الدين لحماية بعضهم البعض، وإخفاء الجرائم، مستفيدين من احتكارهم لآليات صنع القرار في الكنيسة.
نحو كنيسة أكثر مشاركة: دعوته للتغيير لم تلقَ ترحيبًا داخليًا
سعى فرنسيس إلى إعادة توازن العلاقة بين الإكليروس والعلمانيين، عبر تعزيز التعاون والمشاركة في صنع القرار. لكن هذا المسعى لم يكن محل ترحيب في بيروقراطية الكنيسة. فقد اصطدمت رؤاه بتقاليد راسخة، وواجه مقاومة من داخل الجهاز الإداري الفاتيكاني، الذي عرقل وتيرة التغيير ووضع عوائق قانونية في طريق الإصلاح.
رحلة التحول: من التردد إلى الالتزام بالشفافية
على الرغم من أنه في بداياته لم يُحسن التعامل مع بعض شهادات الضحايا، بل وظهر أحيانًا وكأنه يدافع عن المتهمين، فإن البابا خضع لتحوّل داخلي واضح. فبمجرد أن “سقط الغشاء عن عينيه”، أصبح عازمًا على فرض نظام جديد يقوم على الشفافية والمساءلة.
خطواته كانت جريئة: استدعى جميع أساقفة تشيلي إلى روما، وقام بإقالة عدد كبير منهم لتورطهم في التستّر على الانتهاكات. كما أسس لجنة بابوية للإصلاح الإجرائي في قضايا الانتهاكات، وأكد على ضرورة ترسيخ ثقافة “عدم التسامح مطلقًا” مع حالات الاعتداء على الأطفال. وقد بذل جهدًا لوضع معايير صارمة لحماية الأطفال والفئات الضعيفة، رغم أن تطبيقها على أرض الواقع لا يزال محدودًا.
إرث غير مكتمل: حين تُبطئ البيروقراطية عجلة الإصلاح
ما زال إرث فرنسيس في هذا الملف ناقصًا. فقد أعاقت البيروقراطية الفاتيكانية خططه، ووضعت عراقيل قانونية أمام تنفيذ الإصلاحات. حتى اليوم، ما زالت إدارات كنسية – حتى في بلدان متقدمة كأستراليا – تلجأ إلى المناورات القانونية لتفادي دفع التعويضات، بدلاً من اتخاذ موقف أخلاقي يعترف بالخطأ ويعوض الضحايا بكرامة. كثير من الضحايا لا يزالون يصارعون مؤسسات ضخمة للظفر بعدالة مستحقة.
رجل من الهامش: بابا انساني في وجه مؤسسي
كان فرنسيس بابا من نوع مختلف، قريبًا من الناس، يحمل همّ المهمّشين. دعا إلى بناء الجسور، لا الاكتفاء بالحديث عنها، ومضى بنفسه على طرقها. ذكّر الكنيسة بأن الشمولية قيمة أساسية، وأن احترام التنوع جزء لا يتجزأ من جوهر المسيحية. لقد جسّد من خلال حياته وأفعاله أن التغيير ليس حلمًا بعيدًا، وأن الرحمة ليست مجرد وعظ… بل ممارسة حقيقية.
وقد يكون من المؤلم أنه لم يُكمل المهمة، لكنه، في المقابل، أنار لنا جميعًا الطريق.