إقاله رئيسه مكتب الاحصاء الأمريكي: ترامب يشعل ازمه الثقة في بيانات الاقتصاد ويترك خليفته في مواجهة العاصفة
ترامب يهز الثقة في الاقتصاد الأمريكي بإقالة رئيسة مكتب الإحصاء

في وقت يشهد فيه الاقتصاد الأمريكي اضطرابًا غير مسبوق في أدوات قياسه الرسمية، فاجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الساحة السياسية والاقتصادية بإقالته المفاجئة لرئيسة مكتب إحصاءات العمل (BLS) إيريكا ماكنتارفر، دون تقديم أدلة واضحة على اتهاماته بأن المكتب “تلاعب” في بيانات البطالة والتضخم لإظهار إدارته بصورة سلبية. وبينما يستعد لتعيين بديل خلال أيام، تزداد المخاوف من أن مستقبل المكتب ــ الذي يُعد حجر الزاوية في صناعة القرار الاقتصادي الأمريكي ــ بات مهددًا بالتسييس والتدهور الهيكلي.
إرث طويل من المشاكل، لكنه قابل للتدهور أكثر
رغم أن مشاكل المكتب تعود إلى ما قبل عهد ترامب، إلا أن سياساته، خاصةً قراره بفرض تجميد فدرالي على التوظيف، ضاعفت من الضغوط التي تواجهها المؤسسة، وفاقمت من أزماتها الداخلية. فالمكتب الذي يعتمد على فرق كبيرة من المتخصصين لجمع وتحليل البيانات الميدانية، لم يتمكن من تعويض خسائره البشرية بفعل التجميد، ما أدى إلى تقليص نطاق تغطيته الجغرافية والمؤشرات التي يرصدها. بعض المدن مثل بوفالو في نيويورك وبروفو في يوتا، لم تعد مشمولة بجمع البيانات. كما أُزيلت مئات المؤشرات من تقارير أسعار الجملة، بينما انخفض عدد مدخلات مؤشر أسعار المستهلك بنسبة تقارب 15%.
الضغوط لم تقتصر على الجانب التشغيلي فقط، بل طالت الأسس المعنوية للمكتب، حيث أصبح موضع شك وتسييس علني. الاتهامات المتكررة التي أطلقها ترامب، والتي وصف فيها أرقام المكتب بأنها “مزورة”، ساهمت في تآكل الثقة في واحدة من أكثر المؤسسات مصداقية في تاريخ الإدارة الأمريكية الحديثة، ما يهدد بزعزعة استقرار أدوات اتخاذ القرار الاقتصادي على المستويين الفدرالي والخاص.
إصلاح بلا أدوات: من يخلف ماكنتارفر لن يملك عصا سحرية
من الواضح أن خليفة ماكنتارفر، مهما بلغت خبرته أو حسن نيته، سيجد نفسه أمام مهمة شبه مستحيلة في ظل ندرة الموارد وتآكل الهيكل الإداري للمكتب. كما أن فقدان الثقة الشعبي والسياسي في الأرقام الرسمية سيجعل أي محاولة للتحديث أو إعادة الهيكلة مثار شك، حتى وإن كانت مبنية على أسس علمية. تقول إيريكا غروشين، التي ترأست المكتب في عهد أوباما: “أي تغيير الآن سيُقابل بريبة، وهذا بحد ذاته مشكلة حقيقية”.
الأزمة ليست وليدة اللحظة فقط، فلعقود ظل المكتب يواجه انخفاضًا متواصلًا في معدلات تجاوب العيّنات، بالإضافة إلى تعقيدات فنية تتعلق بتكنولوجيا جمع البيانات، وهي تعقيدات ازدادت سوءًا بعد جائحة كورونا، والتي عمّقت من فجوة التواصل بين الدولة والمواطن في ما يتعلق بالمشاركة في المسوح الإحصائية.
قرارات مفاجئة تُضعف المؤسسة بدل إنقاذها
لم تقتصر ممارسات إدارة ترامب على تقليص التمويل وتجميد التوظيف، بل شملت أيضًا حلّ لجان استشارية تطوعية كانت تساهم في تطوير الأساليب الإحصائية وتحليل التغيرات الهيكلية في الاقتصاد. كما اقترحت الإدارة نقل المكتب من وزارة العمل إلى وزارة التجارة، ضمن خطة دمج تشمل وكالات إحصائية أخرى — خطوة اعتبرها كثيرون “مقامرة بيروقراطية” تهدد استقلالية BLS وتفكك هويته المؤسسية.
الإقالة المفاجئة لماكنتارفر لم تأتِ دون تبعات داخلية، فقد أشار مسؤولون في وزارة العمل، تحدثوا بشرط عدم الكشف عن هويتهم، إلى أن قيادة الوزارة لم تكن على اطلاع كافٍ بتخفيضات أجراها المكتب داخليًا بسبب الضغوط المالية، وأن عروضًا للمساعدة قوبلت بعدم تجاوب من BLS، مما دفع الوزارة للضغط على الرئيس لعزل المفوضة.
أخطاء غير مبررة تُمنح كذريعة
لم تخلُ السنوات الأخيرة من بعض الأخطاء التشغيلية داخل المكتب، والتي منحت خصومه الذريعة للهجوم عليه. فقد كشف تقرير داخلي أن بعض البيانات المتعلقة بمؤشر أسعار المستهلكين والأجور نُشرت عن طريق الخطأ في مايو 2024، كما أدى عطل تقني في أغسطس إلى تأخير نشر تقرير مهم بنحو نصف ساعة، بينما حصلت بعض المؤسسات المالية على تلك البيانات مبكرًا بعد تقديمها طلبات مباشرة — وهي حوادث تم التحقيق فيها لاحقًا ووصفت بأنها “حالات فردية” لكنها كشفت هشاشة الأنظمة الداخلية للمكتب.
ارتدادات سياسية واقتصادية
رغم محاولة بعض مسؤولي الإدارة تصوير الإقالة على أنها قرار تقني بحت يستند إلى أداء ماكنتارفر، فإن تصريحات ترامب على منصة “تروث سوشيال” تشير إلى نوايا أعمق — إذ قال حرفيًا إن “الأرقام مزوّرة لضرب الجمهوريين”، وهو ما يقوض مساعي التهدئة، ويصب الزيت على نار الشكوك في مصداقية البيانات الرسمية.
هذا النوع من الخطاب قد ينعكس مباشرة على معدلات تجاوب المواطنين مع الاستبيانات، خاصة في زمن أصبحت فيه المعلومات الخاصة محل قلق واسع. تقول سوزان هاوسمان، كبيرة الباحثين في معهد أوبجون: “مثل هذا الكلام يُحدث ضررًا فعليًا على جودة البيانات، ويُخيف الناس من التفاعل”.
كيف يمكن إنقاذ المكتب؟
يشير الخبير الاقتصادي جيد كولكو، الذي عمل سابقًا في وزارة التجارة، إلى أن إصلاح BLS لا يمكن أن يتم بين عشية وضحاها. فالتحديث يتطلب تمويلًا كافيًا، وكفاءات مهنية عالية، ومشاركة مستمرة من الخبراء الداخليين والخارجيين. “الإدارة الجادة في تحديث الإحصاءات الاقتصادية ستستثمر في الوكالات الإحصائية، وستعمل بجد للاحتفاظ بالخبرات، وستفتح الأبواب للتعاون مع الأكاديميين”، على حد تعبيره.
لكن، في ظل شح التمويل، وسياسات تصفية الهياكل المؤسسية، واستبدال الخبرة بالولاء السياسي، فإن الطريق نحو استعادة قوة المكتب وحياديته يبدو مليئًا بالعقبات. وفي غياب رؤية طويلة المدى تدعم استقلالية المؤسسات الإحصائية، فإن مستقبل قياس الاقتصاد الأمريكي قد لا يكون فقط غامضًا — بل مشكوكًا فيه.