صمت ترامب المريب: كيف يبني الرئيس الأمريكي دولة بوليسية دون ضجيج
ترامب واستخدام نظرية "الرجل المجنون" لإعادة تشكيل العالم

بينما اعتاد العالم على تصريحات دونالد ترامب الصاخبة وتصرفاته المثيرة للجدل، يغفل كثيرون عن أن الخطر الحقيقي لا يكمن في لحظات الغضب التلفزيونية، بل في فترات الصمت المدروس. ففي حين تجذب الاستعراضات الخطابية العناوين الرئيسية، يمر ما هو أخطر — من سياسات وتشريعات وتغييرات مؤسسية — في هدوء، دون ردود أفعال توازي حجم التهديد الذي تمثله.
هذا هو جوهر التحذير الذي يطرحه الكاتب البريطاني جوناثان فريدلاند في مقاله المنشور مؤخرًا في صحيفة الغارديان، حيث يرصد كيف أن ترامب، في ولايته الثانية، بات يمضي قدمًا في تحويل الولايات المتحدة إلى ما يشبه الدولة البوليسية، دون الحاجة إلى إثارة الغبار الإعلامي المعتاد.
وعبر استعراض سلسلة من التطورات السياسية والقانونية خلال الأسابيع الماضية، يوضح فريدلاند أن ديمقراطية الولايات المتحدة — التي طالما كانت مرجعية عالمية — تتآكل ببطء، بينما يواصل ترامب تجريد المؤسسات من سلطاتها، وتوسيع نفوذه التنفيذي، وتطويع القضاء، بل وحتى تهديد الصحافة.
تهديدات تجارية ضد العدالة الدولية
في سابقة خطيرة، هدد ترامب مؤخرًا بفرض رسوم جمركية بنسبة 50% على البرازيل، ما لم تسقط سلطاتها القضائية التهم الموجهة للرئيس السابق جايير بولسونارو — أحد أصدقاء ترامب الإيديولوجيين — المتهم بمحاولة الانقلاب على نتائج الانتخابات. هذه ليست المرة الأولى، فقد استخدم ترامب التهديد المالي ذاته في وقت سابق ضد إسرائيل لحماية نتنياهو من المحاكمة.
هذا النمط يعكس ما يسميه فريدلاند “محاولة لتفكيك أحد أركان الديمقراطية العالمية”: خضوع القادة للقانون. فبالنسبة لترامب، كل محاكمة لحليف أو زميل شعبوي هي بمثابة هجوم شخصي عليه، وخطوة ينبغي التصدي لها باستخدام أدوات الدولة.
تحالف دولي بين المستبدين الجدد
ما يُقلق أكثر من مجرد الدفاع عن شخصيات مثل بولسونارو أو نتنياهو، هو ما يبدو أنه محاولة لتأسيس جبهة عالمية من الزعماء الشعبويين الذين يتشاركون عداءهم للقضاء المستقل ووسائل الإعلام الحرة. هذا التحالف غير المعلن يهدف إلى تطبيع ثقافة الإفلات من العقاب وتهميش المؤسسات الرقابية، بما يخدم أجندة ترامب داخليًا.
توسيع جهاز الترحيل… بميزانية خيالية
مرّر الكونغرس مؤخرًا مشروع قانون هائل يدعمه ترامب، يتضمن توسعًا غير مسبوق لوكالة الهجرة والجمارك (ICE). فقد ارتفعت ميزانيتها بنسبة 308%، مع تخصيص 45 مليار دولار للاعتقال و30 مليارًا للترحيل. ووفقًا للتقديرات، سيُصبح لدى الوكالة القدرة على احتجاز 120 ألف شخص في وقت واحد.
المقلق أن نصف هؤلاء المحتجزين لا يملكون سجلاً جنائيًا. وفي ظل هذه الطفرة في الصلاحيات، بدأت منظمات مثل Bulwark – وهي منصة محافظة مناهضة لترامب – بالتحذير من أن ICE تتحول بسرعة إلى “أداة القمع الداخلي الأولى”، لتتجاوز حتى الـFBI في عدد العناصر والموارد.
محاكمات في الظل وسجون تحت الأرض
بينما يُشاهد الأمريكيون مقاطع فيديو متفرقة لوكلاء ICE الملثمين وهم يعتقلون مهاجرين في الشوارع، تتحدث تقارير عديدة عن ظروف احتجاز مزرية: مئات الأشخاص محشورون في غرف صغيرة، ينامون على الأرض دون مراتب، يحصلون على وجبة واحدة يوميًا، وتُحرمهم السلطات من الحمّامات والاستحمام.
ومع ذلك، تمر كل هذه الأخبار دون ضجة تُذكر، لأنها لا تأتي ضمن أداء ناري لترامب، ولا تترافق مع تغريدة مثيرة أو مقطع مصوّر صاخب.
المحكمة العليا تُفكك الضوابط المؤسسية
في تطورات قضائية قد تبدو تقنية للوهلة الأولى، منحت المحكمة العليا ترامب سلطة طرد الموظفين الفيدراليين بالجملة، وحلّ الوكالات الحكومية دون العودة إلى الكونغرس، وهي صلاحيات غير مسبوقة. بل وذهبت أبعد من ذلك حين أقرت حقه في إقصاء الديمقراطيين من الهيئات الرقابية التي يُفترض أن تبقى متوازنة سياسيًا.
أخطر ما في الأمر أن المحكمة أضعفت قدرة المحاكم الدنيا على إيقاف أو مراجعة قرارات ترامب التنفيذية، مما يعني تقليص فعلي لفكرة “السلطة القضائية المستقلة”.
إلغاء الجنسية بالولادة… قلب الدستور الأمريكي
بهدوء، ألغى ترامب مبدأ حق المواطنة بالولادة — أي أن كل من يولد على الأراضي الأمريكية يُعتبر مواطنًا تلقائيًا — رغم أن هذا الحق مُصان في التعديل الرابع عشر للدستور. المحكمة لم تعترض. وهو ما وصفته القاضية كيتانجي براون جاكسون بأنه من أكثر ما يُقلقها بشأن “مستقبل الديمقراطية الأمريكية”.
ترهيب الإعلام… لا عبر التويتر بل عبر المحاكم
أصبحت استراتيجية ترامب ضد الصحافة أكثر دهاءً. فبدلاً من الهجوم اللفظي كما كان يفعل في ولايته الأولى، لجأ في السنوات الأخيرة إلى سيل من الدعاوى القضائية ضد وسائل إعلام كبرى، أغلبها دون أساس قانوني قوي. لكنه ينجح في انتزاع تسويات مالية ضخمة، مما يُرهب مؤسسات الإعلام ويدفعها إلى الحذر الذاتي.
التآكل الصامت للديمقراطية
ما يجري ليس انقلابًا صاخبًا، بل عملية “تآكل بطيئة” — كما يسميها فريدلاند — للمؤسسات، للقانون، وللأعراف. إنها محاولة ممنهجة لنقل الولايات المتحدة من نموذج التوازن والفصل بين السلطات إلى نموذج الرجل الواحد، عبر سلسلة خطوات تُنفذ في الظل، لا تثير اهتمامًا عالميًا لأن “ترامب لم يصرخ هذه المرة”.
الخلاصة: حين يصمت ترامب، ارفع الصوت
في ختام مقاله، يوجه فريدلاند نداءً واضحًا: التهديد الحقيقي لا يكمن في التغريدة التالية، بل في مشاريع القوانين، والتعديلات المؤسسية، والصلاحيات المتنامية لوكالات مثل ICE والمحكمة العليا. “العمل على مقاومة هذا الانحدار يبدأ من ملاحظته”، يقول فريدلاند.
إنها دعوة للانتباه، لا فقط لما يصرخ به ترامب، بل لما لا يقول عنه شيئًا.