الوكالات

من الكشري إلى الصواريخ: عندما تُربك الصورة خطاب الدولة في مصر

في مصر، يمكنك أن تهتف على شاشات التلفزيون بسقوط تل أبيب دون أن يرف لك جفن، لكن لا تقترب كثيرًا من تصميم صحن كشري على هيئة صاروخ… فقد تتجاوز حينها حدود الخطاب المسموح، حتى في أكثر اللحظات حماسة وطنية. هذا هو المشهد المربك الذي صنعته صورة ترويجية ساخرة لطبق الكشري المصري، والذي ظهر على مواقع التواصل وهو مُشكّل على هيئة صاروخ، في خضم الحرب بين إسرائيل وإيران.

لم يكن هذا سوى مثال صغير على التناقض العميق في الخطاب السياسي المصري: إعلام رسمي يتبنى نبرة شعبوية معادية لإسرائيل، بينما تحاول الدولة في الوقت نفسه كبح جماح هذا الخطاب عندما يخرج عن “السيناريو المسموح”.

كشري بصبغة صاروخية… وإيران تحتفل

الصورة التي نشرتها سلسلة مطاعم مصرية شهيرة، والتي يقال إنها مولدة بالذكاء الاصطناعي، أُطلقت تزامنًا مع اليوم السادس من العملية الإسرائيلية ضد إيران (عملية “الأسد الصاعد”). التقطتها وسائل الإعلام الإيرانية باعتبارها دلالة دعم شعبي من المصريين لإيران، بل وادعت – زيفًا – أن إسرائيل هددت المطعم، ما لم يتوقف عن تقديم أطباق “مستوحاة من الصواريخ الإيرانية”.

داخل مصر، لم يُقابل التصميم بكثير من الانتقاد، بل بدا منسجمًا تمامًا مع اللهجة التي تسود الإعلام المحلي، حيث تُصور إيران كقوة “مقاومة” صاعدة، وإسرائيل كقوة منهارة ومذعورة. ولكن بعد أن أثارت الصورة غضبًا في إسرائيل – التي تربطها بمصر معاهدة سلام منذ أكثر من 40 عامًا – قامت السلسلة بحذف الإعلان، وأصدرت بيانًا نفيت فيه وجود أي دلالة سياسية، في خطوة يُعتقد أنها جاءت بضغوط من جهات عليا.

سيسيولوجيا التشويش: بين عبد الناصر والسادات… وسيسي

ما حدث لا يتعلق فقط بكشري على شكل صاروخ. إنه انعكاس لشقوق واضحة في “الخطاب المزدوج” الذي تبنته الأنظمة المصرية على مدى العقود. فمنذ عهد عبد الناصر، اعتاد الإعلام المصري استخدام لغة معادية لإسرائيل، تمجّد المقاومة وتستنكر “العمالة”. في المقابل، حافظت مصر – منذ عهد السادات – على سلام استراتيجي مع تل أبيب، عززته شراكات أمنية وسياسية هادئة مع واشنطن.

لكن يبدو أن هذا التوازن لم يعد ممكنًا. فالرسائل المتضاربة – سلام رسمي ودعاية عدائية – باتت تخلق ارتباكًا عامًا لا يمكن السيطرة عليه. المواطن العادي، والمتابع الأجنبي، لم يعودوا قادرين على التمييز بين “الدعاية المسموح بها” و”التصريحات الممنوعة”.

الإعلام الرسمي يُصفق لإيران… رغم العداء التاريخي

على شاشات مثل “صدى البلد”، تحدث الإعلامي أحمد موسى وضيوفه عن “هشاشة الجبهة الداخلية الإسرائيلية” و”عجز إسرائيل عن الصمود في حرب تمتد لأكثر من 10 أيام”. أما عمرو أديب، نجم برنامج “الحكاية”، فقد أعلن بفخر أن “الرد الإيراني بدأ… ليلة ملتهبة ومؤلمة للإسرائيليين”.

حتى صحيفة الأهرام الرسمية، انشغلت بتحليل نجاحات إيران المفترضة، بينما تجاهلت إلى حد كبير الضربات الإسرائيلية الدقيقة لمواقع الحرس الثوري.

كل هذا مثير للاستغراب في ضوء العلاقات العدائية القديمة بين القاهرة وطهران. فمنذ 1979، قطعت مصر علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، ورفضت برنامجها النووي، ووقفت دائمًا في صف خصومها الخليجيين. كما تضررت مصر اقتصاديًا من هجمات الحوثيين – وكلاء إيران – في البحر الأحمر، والتي كلفتها أكثر من 7 مليارات دولار العام الماضي.

أصوات نادرة… تُحذر من الغرق في “الخطاب الإيراني”

من بين الأصوات القليلة التي خرجت عن الخط العام، كان الصحفي المعروف إبراهيم عيسى، الذي حذر من تمجيد إيران، وهاجم حماس، وأدان هجومها على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023. لكنه يبقى استثناءً نادرًا في ساحة إعلامية تخنق التعدد وتدفع باتجاه الانفعال الجمعي.

الخطر الحقيقي: ليس الدعاية بل التشويش

المشكلة لم تعد في الرسائل الإعلامية الموجهة، بل في التناقض الذي أصبح لا يُحتمل. كيف يمكن لبلد أن يحتفي إعلامه بقوة تُهدد مصالحه، وتُزعزع استقراره، وتضرب ممراته الملاحية؟ كيف يمكن أن تتبنى الحكومة سياسات خارجية واقعية، بينما تُطلق في الداخل خطابًا يبدو وكأنه مُستلّ من دفاتر محور طهران – حزب الله؟

إن ازدواجية الخطاب التي اعتُبرت يومًا وسيلة ذكية لإرضاء الداخل والخارج، أصبحت اليوم عبئًا يُفقد السياسة المصرية تماسكها ووضوحها. الكشري الصاروخي، إذًا، لم يكن مجرد صورة طريفة… بل لُقطة خاطفة لحالة من الانفصام السياسي الذي قد يصبح قريبًا مكلفًا للغاية.

محمود فرحان

محمود أمين فرحان، صحفي متخصص في الشؤون الدولية، لا سيما الملف الروسي الأوكراني. عمل في مؤسسات إعلامية محلية ودولية، وتولى إدارة محتوى في مواقع إخبارية مثل "أخباري24" والموقع الألماني "News Online"، وغيرهم, حيث قاد فرق التحرير وواكب التغيرات المتسارعة في المشهد الإعلامي العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى